” ينشد علم الاجتماع الفهم من خلال التأويل للنشاط الاجتماعي ومن خلال ذلك التفسير السببي لحدوثه وآثاره”1[1]
يبدو أن المعرفة التي ينتجها تطبيق القوانين الاجتماعية ليست معرفة للواقع الاجتماعي في حد ذاته وإنما أحد الوسائل التقريبية التي يستعملها الفكر في هذا السياق. وبالتالي لا يمكن معرفة الظواهر الاجتماعية إلا عبر الارتكاز على حقيقة الحياة وإدراك العلاقات الدقيقة التي تتحكم في الظواهر ودلالتها البنيوية.
لكن هل الظواهر الاجتماعية هي ظواهر بسيطة أم ظواهر معقدة ؟ وما الذي يقع تأويله في الظاهرة الاجتماعية؟ هل النشاط الفردي أم النشاط الاجتماعي؟ أليس البناء الاجتماعي على صلة وثيقة بموضوع الهيمنة – المشروعية؟ هل يتم الالتجاء إلى التهديد بالقوة وممارسة العنف من أجل تنظيم الأنشطة الفردية والجماعية لصالح استقرار المجتمع ونمائه أم يتطلب ذلك إقامة نظام رمزي قانوني عن طريق الاعتراف والطاعة والموافقة؟ هل يرتكز النشاط الاجتماعي على رابطة خارجية وعلاقة تعاقدية تبادلية أم على رابطة داخلية والإحساس بالانتماء ضمن إطار العيش المشترك؟ ألا تتم ممارسة السلطة الاجتماعية من خلال سيطرة المعقولية على اللاّمعقولية المتبقية والانتقال من التوحش والفوضى إلى النظام والتمدن؟ ألا يتوطد النظام الاجتماعي بالاعتراف بالتراتبية وشرعنة القيادة وعقلنة العنف المادي في شكل عنف رمزي؟ في أية شروط يخضع الأفراد نشاطهم لترتيب المجتمع؟ لماذا تتجه الأنشطة الفردية الى الاندماج مع الأنشطة الاجتماعية؟ وعلي أي تبريرات داخلية ووسائل خارجية تستند هذه السيطرة الاجتماعية؟
من وجهة المنهج يتجاوز فيبر في مقاربته للوضع الاجتماعي للكائن البشري أولا التصور الوضعي للمسألة الاجتماعية واعتماده على طريقة التفسير والملاحظة الخارجية والتنبؤ وينقد اعتبار دوركايم الظواهر الاجتماعية مجرد أشياء وتطبيقه لطرق كمية. من جهة ثانية يتخطى التعارض الذي يقيمه ديلتاي بين الفهم والتفسير بجعله حركة التأويل تتضمن العنصر السببي وقوله بجدلية الفهم والتفسير لأن علم الاجتماع تأويلي ويمكنه أن ينتج تفسيرا ويحرص على استيفاء العقلنة على نطاق واسع من المجتمع والتاريخ والاقتصاد والقانون والدين ضمن استراتيجية برهنة تقوم على الاقتران والمزاوجة بين التأويل التاريخي والتفسير السببي ويتحرك ضمن تصنيفية الأنماط المثالية والفردانية المنهجية.
ينبغي أن يكون عمل عالم الاجتماع متخصصا ومهنيا وبعيدا عن الهوى والصدق والموهبة والعمق والإلهام وقريبا من التجربة المعيشة والقدرة والكفاءة. كما يجب التوقف عن النظر إلى العلم بوصفه عملية حسابية باردة تقوم في المخابر ومكاتب الإحصاء والتعامل معه كمجهود بشري حي ومعيش.
” لا يمكن أن نفسر بالتدقيق مجموع الظواهر الاجتماعية بكيفية عامة إلا بالقيام بتحليلات سوسيولوجية خاصة”2[2]. علاوة على ذلك ” يشير علم الاجتماع إلى علم الواقع ويبحث عن فهم أصالة حقيقة الحياة التي تحيط بالناس ويعيشونها بكل جوارحهم ومن خلال أنشطتهم والعلاقات التي يقيمونها فيما بينهم”3[3].
من وجهة الموضوع يتوجه البحث في الزوج المفهومي الهيمنة والشرعنة مع الأخذ بعين الاعتبار مصطلح الاعتقاد والاعتناء بمفهوم النشاط البشري أو الفعل في دوائر الفردية والجماعة والاجتماعية.
ليس النشاط مجرد سلوك أو تصرف يتكون من مجموعة من الحركات التي تحدث داخل الزمان والمكان بل يستوعب مفهوم المعنى بالنسبة إلى الفاعل الإنساني ويتحدد من خلال العلاقة مع فاعلين آخرين ويرتبط بنشاط الغير ويتم انجازه بالتعاون معه. هكذا يتشكل النشاط الاجتماعي من خلال هذه العلاقة بين الذاتي والبيذاتي ويتضمن أولا معنى ذاتيا ومن جهة ثانية يأخذ بعين الاعتبار دوافع الآخر.
ينطلق فيبر من فكرة النموذج المحفز على الفعل لكي يفسر تفهميا مفهوم النشاط الاجتماعي وظواهر الامتناع عن النشاط والانسحاب من دائرة الفعل والاعتناق السلبي والحركي وتوجه الفعل نحو المعاصرين ونحو السابقين ونحو اللاحقين ويقر بأننا ” نكون دوما إزاء أفراد ينشطون بتفاعل مع أفراد آخرين”4[4]. كما يتضمن النشاط الاجتماعي معنى البيذاتية على غرار دعوة هوسرل إلى تنزيل العلاقات البيذاتية في إطار اجتماعي في التأمل الخامس من تأملاته الديكارتية. تبعا لذلك يتحدد النشاط الاجتماعي:
– على نحو عقلاني من حيث غايته ومن خلال انتظارات تتعلق بمواضيع خارجية وأفراد آخرين
– على نحو عقلاني في قيمته ومن خلال الاعتقاد الواعي بقيمته الإتيقية والجمالية والدينية.
– على نحو تقليدي وبمقتضى العادات المتأصلة ووفق عواطف وانفعالات خاصة بالفاعلين.
على ذلك يتكون حقل البحث من أربع أبعاد: هي استهداف معنى والاتجاه صوب الآخر والانخراط في النشاط الاجتماعي ثم ممارسة الهيمنة وشرعنة القيادة وعقلنة النظام والاعتراف التراتبي. يترتب عن ذلك أن” ما يظل مهما هو إدخال مشكل الشرعية في مشكل النظام وبهذا المعنى لا نكون إزاء رؤية فوقية وإنما رؤية من الأسفل خاصة بالفاعلين الاجتماعيين الذين يستطيعون منح نظام ما صلاحية مشروعة”5[5].
غاية المراد أن هناك ثلاثة أسس للشرعية:
– سلطة التقاليد المقدسة وعادة احترام ماهو عريق وكل ماهو متجذر في الإنسان ونفوذ الأمس الأبدي ( السيد الإقطاعي وشيخ القبيلة).
– سلطة الكاريزم والنفوذ المبني على المميزات المثالية للقائد والسحر الشخصي والفائق للفرد وتفاني الزعيم في خدمة الناس والثقة الكبيرة التي وضعوها فيه.
والحق أن السلطة التي تفرض نفسها بواسطة الشرعية وصلاحية الوضع القانوني والكفاءة الايجابية التي تبنى جدارتها على قواعد عقلانية6.[6]
ما يلفت النظر في هذا التمشي هو أن ماكس فيبر يميز بين سياق يتشكل فيه المجتمع ويتميز بالانفتاح وتمتلك فيه السلطة مصداقيتها من المساندة الطوعية والتكملة الشرعية، وسياق تتشكل فيه الجماعة المتحدة ويتميز بالانغلاق ويغلب على الوضع التهديد باللجوء إلى العنف لفرض الهيمنة وتأسيس دوام النظام. في هذا المقام يصرح غادامير أن ” كل طاعة لنفوذ ما تقتضي الاعتراف بتفوقه وإذا توقف عن ذلك فإنه يرتد إلى العنف”7[7].
إحقاق للحق يمكن الانتهاء إلى النقاط التالية:
1ـ لاشيء يمنع من إنشاء علوم اجتماعية تدرس النشاط الفردي والجماعي ذات قدر من الموضوعية مقارب لما في العلوم الصحيحة والطبيعية بالرغم من استقلاليتها واندراجها في نظام معنوي مغاير وانفتاحها على غير عادة الوضعيين على الرمز والتجربة المعيشة والمعنى والقصدية.
2ـ لكي يتم تناول الوضع الاجتماعي عبر منظور مزدوج من الفهم والتفسير يكون من اللازم الإبعاد الكلي لمفهوم الإنسان الذي ساد لفترة طويلة في التراث الميتافيزيقي ونتج عنه من حديث عن الجوهر والماهية والطبيعة والتعريف والاهتمام الحصري بدراسة أحوال الكائن البشري من جهة شروط وجوده وأوضاع حياته وسيرته الذاتية وأنماط حضوره في العالم وتجاربه المعيشة دون أحكام مسبقة معيارية.
3ـ صحيح أن المجتمعات البشرية غامضة ومعقدة وتتلاقى في العديد من العوامل والعناصر وتعرف تحولات وتقلبات ومأخوذة في الصيرورة ولكن هذا لا يجعلها خاضعة بشكل تام لأهواء الحرية ومعرضة للفوضى الى درجة أن العقل العلمي يعجز عن فهمها ويتعذر عليه تشكيل معرفة موضوعية وتأويل مقبول عنها.
لكن هل يمكن الاعتماد على هذه المفاهيم في مجتمعات يتداخل فيها العنف مع المقدس؟ هل تتضمن هذه المفاهيم قيمة وصفية تفسيرية أما أنها تمتلك قيمة مضافة في مجال التأويل والنقد؟
الهوامش والإحالات:
[1] بول ريكور، العادل، الجزء الثاني، ترجمة بيت الحكمة، قرطاج، تونس، 2003. فصل المقولات الأساسية لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر، ص470،
[2] Weber (Max), économie et société, tome1, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1971. chap les concepts fondamentaux de la sociologie,,p.48.
[3] Weber (Max), essai sur la théorie de la science, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1965, pp.152.153 .
[4] المرجع نفسه
[5] بول ريكور، العادل، الجزء الثاني، ترجمة. فصل المقولات الأساسية لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر، ص475.
[6] ماكس فيبر، العالم والسياسي، ترجمة نادر ذكرى،دار الحقيقة، بيروت، طبعة 1982، صص.47-48.
[7] المرجع نفسه، ص.482.
المصادر والمراجع:
Max Weber, essais sur la théorie de la science, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1965.
Max Weber, économie et société, tome1, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1971. chap les concepts fondamentaux de la sociologie, pp3.57.
ماكس فيبر، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع – الفصل الأول من كتاب “الاقتصاد والمجتمع”، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة، القاهرة، طبعة أولى، 2011.
ماكس فيبر، العالم والسياسي، ترجمة نادر ذكرى،دار الحقيقة، بيروت، طبعة 1982،
بول ريكور، العادل، الجزء الثاني، ترجمة بيت الحكمة، قرطاج، تونس، 2003. فصل المقولات الأساسية لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر ، صص469 و490، وفصل وعود العالم فلسفة ماكس فيبر لبيار بوراتز، صص491 و500.
كاتب فلسفي
[1] بول ريكور، العادل، الجزء الثاني، ترجمة بيت الحكمة، قرطاج، تونس، 2003. فصل المقولات الأساسية لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر، ص470،
[2] Weber (Max), économie et société, tome1, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1971. chap les concepts fondamentaux de la sociologie,,p.48.
[3] Weber (Max), essai sur la théorie de la science, traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1965, pp.152.153 .
[4] المرجع نفسه
[5] بول ريكور، العادل، الجزء الثاني، ترجمة. فصل المقولات الأساسية لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر، ص475.
[6] ماكس فيبر، العالم والسياسي، ترجمة نادر ذكرى،دار الحقيقة، بيروت، طبعة 1982، صص.47-48.
[7] المرجع نفسه، ص.482.