22 نوفمبر، 2024 5:59 م
Search
Close this search box.

النزوع الطبقي للمؤسسات العراقية

النزوع الطبقي للمؤسسات العراقية

منذ نشوء انظمة الحكم في الحضارات الاولى والترابط حاصل بين هذه الانظمة والجماهير المرتبطة بها بحيث يمكن للفرد العادي الاتصال بتلك الانظمة كلما دعت الضرورة إلى ذلك ، وقد كان لحضارة وادي الرافدين قصب السبق في هذا المجال إذ تشير ملحمة جلجامش التي تتناول احداثا وقعت في النصف الاول من الالف الثالث قبل الميلاد إلى قدرة المواطن العادي في إيصال شكواه إلى الحاكم وإلتزام الحاكم بمعالجة تلك الشكوى ، كما ابرزت لنا المصادر الكتابية الاخرى استقبال ملوك وادي الرافدين لعرائض المواطنين وردهم الشخصي عليها ، ومثل ذلك كان يجري في العصور الاسلامية حيث كان هناك ديوان مهمته النظر في المظالم ومن يستعصي منها يتم إحالته إلى الخليفة أو السلطان الذي يخصص يوما للنظر في ما استعصي على الحل ، هذا بالنسبة لبلدنا ومنطقتنا أما بالنسبة للمناطق الاخرى فتشير المصادر المتوفرة إلى اهتمام الكثير من الحكام في مختلف انحاء العالم بحل مشاكل المواطنين واستقبال العرائض منهم بل ومقابلتهم إذا ما تطلب الامر ذلك وفي بعض الاحيان بغض النظر عن خلفياتهم الطبقية .
لقد اصبح الاهتمام بشؤون المواطنين تقليدا معتادا في الكثير من البلدان ثم اصبح واجبا اساسيا من واجبات الحكام بحيث يتم تقييمهم من خلاله ، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال وهي البلد الاكبر عالميا يخصص الرئيس جزءا مهما من وقته للاهتمام بشؤون المواطنين واستقبال ما يستطيع منهم وفق جداول وبرامج معينة .
اما في العراق البلد الذي شهد تغييرات كثيرة في المائة سنة الماضية فقد كان التعاطي مع شؤون المواطنين محددا بعوامل عديدة من بينها خلفياتهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية وفائدتهم لنظام الحكم فضلا عن الرغبات الشخصية للحكام ، فكانت صلات حكام العهد الملكي مقصورة على دائرة ضيقة تشمل في الغالب الاتباع والأعوان والمقربين بغض النظر عن اثر الجهل المحتمل في التسبب في تقليص دائرة التواصل بين الحكام ومواطنيهم ، إلا ان الامر تغير بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958 إذ اصبحت السلطة اكثر حرصا على التواصل مع الشعب بل والاهتمام بشؤونه بشكل مباشر فكان ان اصبح للسلطة الممثلة انذاك بشخص الزعيم عبد الكريم قاسم مكانة كبيرة في نفوس الناس بل وغدى اكثر الحكام شهرة ومكانة في تأريخ العراق الحديث ، لكن تواصل السلطة مع الشعب لم يستمر على هذه الوتيرة على الرغم من استمرار بعض التقاليد الشكلية للفترة الممتدة من نهاية حكم عبد الكريم قاسم إلى عام 2003 الذي شهد بداية عهد جديد تمثل بتبني الممارسة الديمقراطية .
لقد اصبح حكم عبد الكريم قاسم نموذجا يعتمده العراقيون لتقييم اداء مسؤوليهم أو انظمتهم السياسية فكان حال هذه الانظمة التي تنتمي لخلفيات مختلفة لا يحسد عليه عند مقارنة حكمهم مع حكم الزعيم قاسم على الرغم من محاولة بعضها التشبه به أو اتباع اسلوبه ، لكن ذلك كان  دون جدوى في الغالب لأن محاولاتهم كانت مرتبطة في احيان كثيرة بدوافع دعائية اكثر منها انسانية الامر الذي فهمه العراقيون وأدركوه مليا فبقيت تلك الانظمة دون مستوى عبد الكريم في نظر الشعب  .
لقد احدث التغيير الذي جرى في عام 2003 تغييرا بنيويا في ادارة الدولة العراقية وفي بنية النظام السياسي الحاكم فلأول مرة يجري انتخاب المسؤولين من قبل الشعب ولاول مرة تتحول السلطة في البلاد إلى النمط الديمقراطي ، لكن هذا التحول الذي جرى في ظل ظروف خاصة ومن خلال تدخل خارجي لم يصل إلى النواحي العملية ، فقد بقي مسؤولوا هذا النظام حكام البلاد الجدد بعيدين عن الشعب بل بدو غالبا وكأنهم يعيشون في بروج عاجية فقد قلت امكانية التواصل بينهم وبين افراد الشعب وتحول التفاعل بين الحاكم والمحكوم إلى حالة نادرة ان لم تكن معدومة تماما  .
وبالطبع يمكن تبرير ذلك بالظروف التي يمر بها البلد لا سيما الوضع الامني المتردي وخشية السياسيين من التعرض للاغتيالات والاعتداءات التي قد تستغل أي حالة تواصل بين المواطن والمسؤول أو يتم تبرير ذلك بعدم استكمال بناء مؤسسات الدولة التي مازال اغلبها قيد الانشاء او الترميم الوظيفي ، لكن مثل هذا الامر لا يبرر هذا الانقطاع الحاد بين المواطن والمسؤول فقد اصبح من المستحيل على اغلب المواطنين الوصول إلى المسؤولين الكبار الذي بدى ان التواصل معهم اصبح قاصرا على طبقات معينة من المقربين والمتنفذين ، اما المسؤولين الاقل في السلم الوظيفي فقد اصبح التواصل معهم من الامور الصعبة والمعقدة وفي احيان كثيرة يجري من خلال شبكة من السماسرة والمعارف والمقربين .
ولم يقتصر الجمود في التفاعل بين الحاكم والمحكوم على جانب التواصل المباشر بل شمل ذلك حتى التواصل غير المباشر ، فمكاتب شؤون المواطنين التي توجد في معظم المؤسسات الحكومية لم يعد لدورها من شأن يذكر حيث تقلص دورها من تلقي شكاوى المواطنين ومتابعتها إلى مجرد التفاعل الشكلي الذي يتضمن في الغالب ردا تبريريا مقتضبا أو كليشة اعتذار أو ما شاكل اما محاولات الحل ان وجدت فهي اقل من المأمول بكثير ولدينا امثلة واضحة مستقاة من تجارب المواطنين الشخصية .
ان التساؤل الذي يجدر طرحه في هذا الخصوص هو : هل اصبحت شؤون المواطنين خارج نطاق مسؤوليات المسؤول ؟ وهل يجوز ان يغدو التفاعل بين المواطن والمسؤول في ادنى حالاته على الرغم من الواقع الديمقراطي ؟ ثم وهو الاهم من وجهة نظرنا المتواضعة : هل يعني هذا ان المسؤول عاجز عن التعامل مع شكاوى المواطنين أو  يجدها خارج قدراته وإمكاناته أم انه يتعالى عليها ؟
ان الواقع الجديد يفرض اسلوبا جديدا متطورا في التعامل بين المواطن والمسؤول وعلاقة امتن واوثق بينهم ، وان يتمكن المواطن من الالتقاء بالمسؤول وإيصال شكاواه إليه وإلى مكاتبه المسؤولة عن إستقبال هذه الشكاوى والنظر فيها والتعامل معها وفق ما يسمح به القانون فهذه ليست منية من المسؤولين بل واجب من واجباتهم . 

أحدث المقالات