23 ديسمبر، 2024 1:45 م

النزوح نحو المجهول : الدافع الطائفي لظاهر الهجرة الجماعية

النزوح نحو المجهول : الدافع الطائفي لظاهر الهجرة الجماعية

ظاهرة الهجرة أو التهجير ظاهرة قديمة قدم الاجتماع البشري ذاته ، كما أنها خاصية لصيقة بطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة على التفاوت في الثروة والتراتب في المكانة ، وما قد يتمخض عنهما من صراعات سياسية ننمحور حول اعتلاء عرش السلطة والإمساك بأعنة النظام . ففي المجتمعات القديمة ، على سبيل المثال لا الحصر ، كان الشخص الذي يعتقد انه يخرق القواعد الاجتماعية وينتهك الضوابط العرفية ، سرعان ما يقع تحت طائلة النفي القسري والإبعاد الاضطراري ، بعد أن يتم تجريده من جميع حقوقه وممتلكاته ، عن طريق فصم الرابطة التي تشده إلى الجماعة وقطع صلته بها ، بعد ثبوت تجاسره على خرق قوانينها وانتهاك أعرافها والاستهانة بقيمها . وبالتالي حمله على ترك موطنه الأصلي ومغادرة بيئته الحاضنة ، وذلك عبر الهجرة إلى مواطن أخرى مختلفة والانتساب لجماعات مغايرة ، يجبر على أن يمضي فيها بقية حياته بعيدا”عن مواقع أهله ومرابض عشيرته . وقد اتضح لاحقا”إن هذا الإجراء كان يعد من أقسى العقوبات التي يمكن أن يواجهها الإنسان في حياته ، لاسيما وإنها ترفع عنه غطاء الحماية الاجتماعية التي كان ينعم يدفئها ، فضلا”عن تركه يصارع معاناة الحرمان والغربة . وفي إطار مجتمعاتنا الحديثة ظهرت إلى الوجود أسباب أخرى متنوعة اضطرت الإنسان إلى تبني خيار هجرة وطنه والابتعاد عن جماعته ؛ إما لأسباب تتعلق بالمعتقدات السياسية / الإيديولوجية ، أو الدينية / الطائفية ، أو القبلية / العشائرية ، أو القومية / الاثنية . وإذا كانت التجارب السابقة والحالية قد أثبتت انه يكفي لحصول ظاهرة الهجرة الفردية أو الجماعية ، وجود سبب واحد أو اثنين من تلك الأسباب ، فما بالك حين تجتمع كل تلك الأسباب دفعة واحدة في إطار مجتمع واحد ومرحلة تاريخية واحدة ، كما يحصل الآن في العراق الديمقراطي ؟! . الحقيقة إن المجتمع العراقي الحالي يجسّد هذه الحالة الفريدة والنادرة على أوضح ما يكون ؛ ليس فقط لأنه يحمل بذرة تلك العوامل والمقومات التي تساعد على تفعيل ظاهرة الهجرة بين مكوناته ، كلما نزلت نازلة أو وقعت واقعة فحسب ، وليس فقط لأن رموزه السياسية والدينية التي غالبا”ما تعمل بعكس ما كان يفترض بها القيام به حيال المجتمع ؛ لرأب تصدعاته ورتق تشققاته وترميم انكساراته ، حيث كيفت نفسها مع قناعة إن تحقق مآربها وبلوغ أهدافها لا يتم إلاّ بالعزف على أوتار تلك الاختلافات والتباينات فحسب ، وإنما لوجود عوامل خارجية تمارس تأثيرها وتنفث سمومها ، لزيادة معدلات الصراع السياسي بين التكتلات ورفع مستويات العنف الطائفي بين المكونات . بحيث لم يعد هناك خيار آخر أمام الأطراف المستهدفة سوى الهروب نحو المجهول ، والنجاة بأنفسهم مما يتوقع حدوثه من مجازر طائفية شبيهة بمجازر أحداث عام 2006 إن لم تكن أكثر دموية وأبشع همجية ، فيما لو ترشح (المالكي) لولاية ثالثة من جهة ، واستمر الصراع المسلح بين القوات الحكومة المدعومة بكل أصناف المليشيات ، وبين الجماعات الإرهابية المسلحة من (داعش) أو غيرها من المجاميع الأصولية من جهة أخرى . وعلى ما يبدو فان استشراء ظاهرة الهجرة الجماعية من قبل عوائل المكون (السني) ، لم تكن بعيدة عن أنظار السلطة الحاكمة أو دون علم أجهزتها ومؤسساتها ، بل الأخرى إن لها يد طولى في استمرار هذا النزيف البشري باتجاه الخارج . وهو الأمر الذي يرجح احتمال إن السلطة المالكية ليست بعيدة عن دعم هذا التوجه وتشجيعه ، على خلفية إقرارها المبدئي – ولكن غير المعلن لحد الآن – بعملية تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات مستقلة كل منها تضم مكون معين . وبما إن العاصمة بغداد ستكون مصدر تنافس حامي الوطيس بين الأطراف المتنازعة ، حيث كل منها يبحث عن حصته التي تتناسب وحجم المكون الذي يمثله . ولما كانت (بغداد) تتكون من خليط من القوميات والطوائف ، فان من المناسب العمل منذ الآن على تعزيز تواجد المكون (الشيعي) بكثافة تفوق حجم أقرانه من الطائفة الأخرى (السنية) ، لاسيما وان حجم المكون (الكردي) ضمن حدود بغداد لا يعتد به ، قياسا”إلى بقية المكونات وبالتالي لا يشكل تهديد”ديموغرافيا”للكثافة (الشيعية) مقارنة بنظيرها الكثافة (السنية) . وهكذا فان أفضل إجراء وأضمن وسيلة لتطهير العاصمة من سكانها (السنة) هي أولا”ممارسة الرعب الطائفي الذي يجوب الشوارع لاصطياد أبناء تلك الطائفة ، وثانيا”إطلاق العنان لظاهرة الهجرة إلى خارج الحدود حيث ستتكفل بانجاز المهمة على أسرع ما يكون ، وهو ما تشهد زخمه الآن دوائر الدولة مؤسساتها التي تعنى بترويج معاملات السفر صوب الخارج وانجاز وثائق الهجرة نحو المجهول . وبدلا”من أن تتخذ الحكومة إجراءات عاجلة لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة على مستقبل العراق ، لاسيما وان الجماعات المسلحة لا زالت تحكم قبضتها على العديد من المحافظات ، فهي لم تشيح بوجهها عن تلك الظاهرة وتدير لها ظهرها فقط ، بل أنها عملت على أن تكون مصحوبة بالخوف من الحاضر

العبثي والهلع من المستقبل المظلم !! . والآن ما هو مصير حكومة تطرد شعبها وتهجّر أبنائها بدافع من الهوس الطائفي المقيت ؟؟ . اعتقد إنكم تحسنون الإجابة أفضل مني ! .

*[email protected]