في الحقيقة إن ما شدني للكتابة حيال الموضوع، هو ما روي لي من مظاهر وما شاهدته من ممارسات، حصلت في المشهد القانوني والقضائي والقطاعات الأمنية والعدلية والحقوقية، الذي يقع به نطاق عمل المحامين النازحين، والتي جعلت من مهنة المحاماة وسيلة للارتزاق المذل، بعيدا عن هيبة ووقار مهنة المحاماة، وتنال من رسل العدالة وفرسانها، ومقالي لا يشمل المحامي او المحامية ممن يعمل بضوابط قانون المهنة واصولها وهم كثر، وكلي احترام لكل محامي وطني مهني، وأني في هذه المقالة، سأنال من السهام ما انال، لكني ماضً، ولن أرتديَ ثوبَ الواعظ، بل ثوبي الحقيقي، روب المحاماة، وسأتناول موضوع تعقيب المعاملات بشكل قانوني اكثر في سلسلة مقالاتي عن الحروب الشاذة التي تعيشها مهنة المحاماة، وأقول:
إن محنة النزوح ازمة ولدت ارهاصات والالام كثيرة بعضها ليس هناك متسع في الجلد لتحملها، رافقها ازدياد في اعداد المحامين (مائة وعشرون ألف محام) جعل كثير من المحامين يجدون صعوبة في ممارسة عملهم بسبب ضعف خبرتهم وقلة مواردهم، فمنهم من اخذ يعمل بأتعاب هزيلة وبخسة جدا، ومنهم من ترك ساحات المرافعات والمحاكمات، والتجأ للتعقيب، وأصبح معقب متطور(حقيبة وملبس فاخر)، وترك مهنته الأساسية بدون ان يفكر او يجهد نفسه قليلا من أجل مهنته لأنها مهنة سامية.
إن نظرة المجتمع للمحامي الذي يعقب فقط المعاملات هي نظرة غير مرغوبة وهناك مؤشرات سلبية عديدة على المحامين الذين يعقبون المعاملات، سيما ان هدف المهنة أساساً، الترافع في ساحات المحاكم والتواجد في المشهد القضائي بعيدا عن التواجد في المشهد التنفيذي فقط.
ان الصورة المرسومة لشخص المعقب في اذهان الجميع؛ ذلك الرجل الذي يمتلك مؤهلات علمية لا تتجاوز الشهادة المتوسطة في أحسن الأحوال مع خزين من العلاقات المشبوهة، هذه السيرة الذاتية لشريحة واسعة من المعقبين العاملين، ولا تتطلب المسألة أكثر من كرسي وطاولة صغيرة، ومن فوقها مظلة ومجموعة أوراق لتنصب نفسك في هذا الموقع، فقط إذا تسلحت بالكلاوات والشطارة اللازمتين (كعُدّه) لزوم المهنة التي ربما تجعلك في مصاف ميسوري الحال في أقصر زمن، هو مشهد يومي لمن يطوف المحاكم والدوائر والمؤسسات الحكومية، إما موظفاً، أو مراجعاً، فمن الغرابة أن تمر بمحكمة او مؤسسة عامة دون أن ترى هذه الصورة المألوفة التي باتت جزءاً من المحكمة او المؤسسة بحد ذاتها، فمن يعرف خبايا وزوايا مهنة التعقيب بخاصة في العراق، يعلم جيدا أن قدرة الشخص على مزاولتها والنجاح فيها، يتوقفان على مدى تمكنه في اختراق صفوف الموظفين والمسؤولين، والتسلل عبر جدار نزاهتهم الذي يختلف طولا وقصرا بقدر صلاحهم وفسادهم، ومهنة المعقب تسببت أحيانا بكوارث اجتماعية ونزاعات عشائرية.
كل شيء في المعاملات أيا كان نوعها بات صعب المنال والمعقب دخل كل شيء فهناك معقب لمعاملات البيع والشراء وهناك معقب لمعاملات دوائر الجنسية ومعقب خاص بقضايا النازحين والهجرة والمهجرين وهناك معقب لمعاملات شبكة الحماية الاجتماعية والقبول في الكليات الاهلية واختبار الاقسام وهناك معقبين ظهروا بعد الاحتلال مختصين بمنظمات مشبوهة تعمل تحت واجهات إنسانية وهناك معقب لحصة الغاز والنفط وقضايا الضريبة والكمارك والقروض، فلكل شيء معقب حتى معاملة المولدات الاهلية للحصول على حصة الكاز، وهناك حادثة رواها لي رئيس غرفة قضاء الفلوجة بان هناك معقب اسمه(ب ع) يسمونه المواطنين (بالدكتور المحامي) ويقول انه أنبه وطرده من المحكمة بسبب استخدامه وسائل الاحتيال وأساليب النصب والتخفي خلف مسميات غير حقيقية، فهناك غالبا علاقة وطيدة مضمونها كسر الأنظمة والقوانين، بين المعقب والموظف علاقة تبادل المنفعة وهناك رشاوى (دهن السير) تقدم للموظف في مطاعم راقية او حتى، البيوت تفاديا لجهود النزاهة فهناك لا توجد مفتشية ولا توجد كاميرات ولا هذا يسعى على ذاك، وفي ظل هذا المناخ الموبوء نشأت مهنة التعقيب، لذلك مهنة التعقيب مهنة من لا مهنة له فلا تليق بالمحام مزاولتها.
قد يحتاج المحامي ليكمل قضية وكل بها إلى تعقيب خاص بالدعوى فهذا جائز مثلاً عندما يقيم دعوى عقار فإن المحامي ملزم بمراجعة دائرة التسجيل العقاري، او دعوى أحوال شخصية، قد تكون هناك مراجعة لدوائر الجنسية ولا يعتبر ذلك تعقيباً بل إكمال لمتطلبات دعوى، بالرغم من ان دوائر الجنسية والجوازات لا تقبل بالوكالة لكثرة عمليات التزوير، وقد حدثت في المحكمة الجنائية المركزية في ساعة بغداد عشرات حالات التزوير في صور القيود والهويات وتعرض محامين عددين للتعقيبات القانونية بسبب ذلك، وكان هناك محاميتان اتهمتا بالتزوير، واحيلتا الى محكمة الجنايات لولا تدخلي ورجائي من القاضي المختص بالأفراج عنهم كونهن نساء بسبب الهويات وتقارير طبية مزورة، وعلى اثر تلك الحالات علقت اعلان في غرفة المحامين، انبه به المحامين بضرورة الابتعاد عن متابعة جلب أي صورة قيد او مراجعة دوائر الجنسية والجوازات والصحة، تفاديا من الوقوع في اتهامات التزوير فالأفضل والاصح، ان يقوم بتعقيبها الموكل نفسه، لا ان يقوم المحام بإصدار هويات او صور قيود او جلب تقارير تحت ذريعة ان المحكمة طلبت ذلك، ومهنة المحاماة تستدعي من المحامي أن يكمل كل مستلزمات الدعوى سواء دعوى عقارية أو مدنية أو شرعية بمراجعة تلك الدوائر اتماما لدعوته، لا ان يكون معقب معاملة (متطور) كما يسميه الاخوة الكويتيين.
هناك بعض السلبيات إضافة لما سبق وصفه، اردت فقط التأشير عليها التي باتت تهدد كيان مهنة المحاماة لما عاصرته ميدانيا وما نسمعه لاحقا، من انتهاكات خطيرة لقواعد السلوك المهني وقبلها نصوص قانون المحاماة من بعض المحامين والمحاميات النازحين الذين أصبحوا فاكهة مجالس ومقاهي ولقاءات عديدة، فهناك ممارسات وتصرفات تصدر من البعض أدت الى تفسيرات مؤلمة وقاسية من محامين اخرين، وهي تصرفات مستهجنة، أوجز أبرزها:
أولا/ جلوس البعض من المحامين والمحاميات في طرقات المحكمة؛ بطريقة تشبه الصياد الذي ينتظر وقوع فريسته في الشباك.
ثانيا/ التنافس الفج في متابعة عقود الزواج، فمنهم من أصبح متواجد دائمي عند أبواب كتاب العرائض، وأصبح معقب متطور جاهز وبأبخس الاتعاب، وهناك بعض المحامين والمحاميات ممن يتسابقون في اصطياد من يروم الزواج بطريقة تصل الى حد تقاسم المائة ألف او حتى خمسين ألف كأتعاب لذلك العقد.
ثالثا/ بعض المحامين يعمل تحت عنوان (الكم لا النوع وبأتعاب هزيلة جدا) وبعضهم عند معاتبته اخذ بالتبجح بالعمل مجانا، ونسوا ان الصدق في تقدير الظروف والعدل في تقدير الأتعاب وسمو المحامي ووقار المهنة دعائم أساسية في سياسة المحامي عند تقديره لأتعابه، وهذه الحالة ولدت حالة من الاستياء العام لدى محامي الإقليم، صاحبه نفور يتحمله غالبية المحامين المتواجدين في الإقليم.
رابعا/ محاولة بعض المحامين والمحاميات الضحك على محامين زملاء لهم، كبار في السن لهم وقارهم وعلميتهم، بان يشركونهم في دعاوى قد توكلوا بها، لضعف خبرتهم التي لا تسعفهم في تهيئة الدفوع المطلوبة، وبعد تقديم المحام ذو الخبرة مساعدته من خلال توكله وذهابه في عدة مرافعات وتقديم لوائح، يكون جزاء ذلك، التنصل من دفع اتعابه تحت ذريعة عدم دفع الاتعاب من الموكل، ويتبين كذب هذا الادعاء لدى مواجهة الموكل من المحام ذو الخبرة، وتلك ممارسة مشينة، يقوم بها رجال قانون بحق نبلاء المهنة وصفوتها.
خامسا/ قيام بعض المحامين بممارسة (ان صحت) مؤسفة ومؤلمة، رويت لي من أحد محامي الإقليم في النقابة، بان هناك محام يقوم بإدخال الموبيلات للمواطنين لقاء مبلغ خمسة الاف دينار، وانه يقوم بهذه الممارسة لعدة مرات وبعدها يذهب الى البيت.
سادسا/ هناك بعض من المحامين والمحاميات يتخفى خلف حقيبة ولبس فاخر ويدعي علميته لكنه فارغ قانونا، بل لا يعرفون كتابة ابسط عريضة دعوى(تصديق طلاق خارجي او نفقة) ويجهلون مدد الطعن ولا يعرفون شكليات بسيطة في تقديم عريضة الدعوى وتعد ابجد هوز في القانون، بل ان بعضهم يسمي نقيب المحامين(رئيس النقابة)، وتراهم يتبجحون بانهم محامين كفؤين، لكن وصفهم لا يتعدى اكثر من كونه معقب معاملة، وتذكرني حالة لمحامية في المحكمة الجنائية المركزية عندما كنت رئيس الغرفة حينها، كانت محبة للظهور ومغرمة بتوزيع كارتاته على من ترى انه مؤثرا او لديه منصب، وتنسب لنفسها اوصاف غير حقيقية وتعيش وتشعر بأدوار العظمة، تلبس الفاخر من اللبس وترتدي اساور من ذهب(اجهل عددها لكثافتها في يدها) كانت دائما ترسم لي صورة لمكانتها لا تنسجم ومؤهلاتها نهائيا، وكنت انصحها لأنها كانت مصدر اهتمامي، بان تملأ مكانها ولا تقتصر على ملئ مكانتها، وهو الفاصل المعلم الذي يجب أن يرنو بنفسه المحام عن كل ما من شأنه أن يمسّ بهيبة المحاماة وجلالها، وكانت تدعي دائما بان يومها مزدحم بالأعمال(تعقيب معاملات) ومحاطا بالكثير من العلاقات وتتباهى بمعرفتها للسياسيين، وعند تدقيقي بالادعاءات كوني عاشرت السياسيين والقيادات الحكومية والبرلمانيين من عام 2006 ولحد الان، التقي بهم أسبوعيا سواء داخل العراق او خارجه، فلم اجد احد يعرفها، وفكرت بان يكونوا سياسيين من الخط الثاني وأيضا لم اجد لذلك حيز من الصدق، وكنت قلق عليها واحاول التقرب اكثر اليها خوفا من إغراءات تصادفها وصعوبات تجابهها وسلبيات تجذبها إلى الهاوية.
وهناك بعض المحامين والمحاميات ممن بادية عليه مظاهر الرخاء واللبس وارتداء المخشلات الذهبية واجدهم سباقين ومتصدرين في طلب المساعدة من قيادات النقابة في الإقليم بطريقة حماسية تسقط الهالة والعظمة التي يعيشون ادوارها، وهذه الممارسة قد سحقت حقوق محامين اخرين معسرين ممن يستحقون المساعدة، وعندما تتحدث معهم يتبجحون بانهم يرتدون افخر الملابس ولديهم سيارات فخمة ويسكنون في مناطق راقية ولديهم كافة أنواع الأزياء والموديلات ومن مناشئ رصينة، وهذا الامر مؤلم جدا، وأكثر ايلاما عندما يصدر من محامين حماة القانون واجبهم حفظ الحقوق والحريات، فهل هؤلاء سيكونون أمناء على حقوق المواطنين او حتى حقوق زملائهم؟
سابعا/ وجدت ممارسات من محامين تندرج تحت عنوان (داعي شر وليس محضر خير) وبيئة خصبة للنفاق والتأويل الفاسد، ولم تؤثر به محنة النزوح وآلامها ولم تفت عضده تلك الجراحات والماسي التي جعلت من الكرامة شيء مستباح، ويصر على تداول أحاديث ينصبها دريئة لشق الجيوب واللطم والدوران حولها.
وهذا أيضًا لا ينفي وجود الكثير من المحامين، يتعاملون بأخلاق وشرف المهنة، كما يوجد أيضًا محامون في قمة الطموح وحققوا الكثير من الشهرة وإثبات مهارات وإجادة كبيرة لهذه المهنة.
وقبل أن أختم هذه النقطة، اناشد نقيب المحامين العراقيين ان يضع حدا لتلك الممارسات من خلال تشكيل لجنة للسلوك المهني مع مساعدة المحامين المعسرين مع اعتقادي الكامل ان النقابة ليست مؤسسة خيرية لكن الظرف يستوجب وقوف النقابة مع المحامين النازحين.
سأرمي بسؤالي الأخير، وأغادر: ماذا نقول لبعض ممارسي مهنة المحاماة والطارئين عليها في زمن الاحتلال والجلاء الذين وجدوا في هذه المهنة (ارتزاقا) دون مراعاة للضمير واخلاقيات المهنة،
إلى متى سنترك صرح المحاماة رهينة بيدهم؟
يقول الشاعر:
سل المحاماة كم يوم أغر له غدا اسمه وهو في أيامها علم
قد ناصر العدل فيه فهو منتصر وهاجم البغي فيه فهو منهزم