هي جرأة السيّد فضل الله(رض)، ذلك الرجل الذي دفع الكثير ولا يزال، جرّاء مواقفه ونقداته، وهو الذي تصدى للمرجعية الدينية في وقت التصارع العنيف عليها من الاتجاهات التقليديّة والمغالية والحرس القديم في المؤسّسة الدينية، والتي استخدمت كلّ الأساليب المشروعة وغير المشروعة للسيطرة التامة على المرجعية، وقمع أي محاولة إصلاحية. فلم يكن “النقد”-هذه الكلمة التي لها وقعها في النفوس- خياراً انتقاه السيّد فضل الله للمواجهة، بل كان نهجاً سار عليه، فمثّل “التفكير النقديّ في كتابات السيد فضل الله ظاهرةً عميقة الجذور، تستند إلى رحابة في التفكير، ورجاحة في العقل، واستقلال بالرأي، فضلاً عن همٍّ إسلامي شكَّل زخماً هائلاً باتّجاه إصلاح المجتمع وأحواله، فعبَّر عنه باتجاهٍ نقديّ عام وشامل من جهة، وقويّ وواضح وصريح من جهةٍ أخرى”… كما عبّر المؤلف السيّد محمد الحسيني في بداية الكتاب. وهو الذي رافق السيد فضل الله (رض) طوال أكثر من عقدين من الزمن وخَبُر عن قرب منهج السيد النقدي.
كتاب “النزعة النقدية” يمثل عصارة فكر السيد فضل الله النقدي، والذي نقله السيد الحسيني إلينا ووثقه للأجيال القادمة، ليكون طريق حياة علمية ينتهجها العاملون للإسلام.” …هذا الكتاب يعطينا صورةً واضحةً عن العقل الإسلامي الذي يمارس النقد باتجاه البناء وتشكيل واقع حضاريّ إنسانيّ ينطلق من القرآن الكريم والسّنة النبويّة الشريفة”… كما جاء في التصدير الذي كتبه السيد شفيق الموسوي مدير المركز الإسلامي الثقافي.
يتحدث الكاتب في الفصل الأوّل عن الظاهرة النقدية عند العديد من الإسلامين والمصلحين، لأنها ليست وليدة الزمن الحديث، وإن غابت لعصور وأحقاب، إلا أنّه كان يبرز علماء
ومجددون يعملون على تسليط الضوء على الاعوجاج والخروج عن الخط الإسلامي في النمط الديني التقليدي السائد. ثم يعرض للتقسيمات النقدية في كلام السيد فضل الله ويعدد أنواعها، من النقد الشخصي إلى النقد التشهيري والذاتي والردعي والغيابي والتقويمي. ويقدم لكل نوع قبساتٍ من كتابات السيد من مختلف تراثه الفكري.
في الفصل الثاني يسهب الكاتب في الحديث عن المصادر التي ألهمت السيد فضل الله هذا النمط الفكري والتي اعتمد عليها في كل مسيرته، ” بحيث طغى التفكير النقدي على معظم كتاباته وأحاديثه الخاصّة والعامة، إنْ لم يكن على جميعها، راصداً حركة موضوع بحثه بشكلٍ دقيق ومتوازن، مكتشفاً مواطن القوّة والضعف فيه، لينتهي إلى تعميق مواطن القوّة فيه وتجذيره، والتنبيه على مواطن الضعف والخلل وما يَعْتَوِر ذلك من أخطار وما يحيط به من مشكلات ومعوِّقات…” ويفصل هذه المصادر التي يأتي في طليعتها الإسلام الذي يعتبر الرسالة الحية التي تعيش في نفوس كل المسلمين وترسم لهم نهج حياتهم في مختلف جوانبها، ولهذا كان يُعتبر السيد إسلامياً طليعياً قبل أي شيء آخر.
والمصدر الثاني هي التجربة الحياتية التي كان السيّد فضل الله يعتبرها المدماك الأساس في البناء النقدي والينبوع الذي يرفد الفكر في كل نواحيه، يقول: ” فقيمة التجربة ليست في ما تنتجه من فكر فحسب، بل إنّ قيمتها تنبع من أنّها تغيِّر حياتك من السلب إلى الإيجاب، فلتكن التجربة هي الواعظ الذي يعظك أنْ تفعل ما لم تفعله، أو تترك ما فعلته من السلبيات”.. ولذا اهتم بتجارب الآخرين واستفاد منها للمضي قدماً في حركته ومسيرته.
وثالثاً بحسب الكاتب هموم العمل الإسلامي، فكان من المهتمّين فوق العادة بكلّ حركة الإسلاميين ومراقباً للحياة العامة للمسلمين أفراداً وجماعات، ومحاولة الوصول إلى التطابق بين هذا الحراك اليومي وبين المفاهيم والتعاليم الإسلامية، وردم الهوّة الكبيرة بين هذين العالمين.
بحيث يخرج عن المألوف والمتعارف عن رجال الدين التقليديين.
وفي القسم الثاني من هذا الفصل يسرد الباحث لمبررات التفكير النقدي لدى السيد فضل الله، من استشراف المستقبل وصناعته، والتخطيط له من جهة، وضبط حركة الإنسان بعيداً عن الارتجال وتحديد وجهة حياته من جهةٍ أخرى. إلى العمل على تحصين الأمة وصيانتها على
كافة المستويات المتقدمة، وأيضاً تشخيص الإمكانات والقدرات الذاتية للأمة والمجتمع والعمل وفقاً لهذه القدرات والإمكانات المتاحة، بعيداً عن الهلوسة التي تصيب هذه الأُمم وتدفعها باتجاهات خاطئة ومسارات خطيرة ومدمِّرة…
أما في الفصل الثالث فيسهب السيد الحسيني في الحديث عن التفكير النقدي عند السيّد فضل الله
ومجالاته واشتغالاته، مفصلاً كل الجوانب التي خاض فيها السيد فضل الله، من الناحية الاجتماعية التي ترتبط بالدين بشكل وثيق، وتأثيرها فيه بشكل مباشر، ” ومن وحي هذه العناية انبثقت ملاحظات السيّد فضل الله النقدية، لأنّه كان يشعر بأنّها غريبة عن المرجعيّة الإسلاميّة التي ينتسب إليها، أو أنّها فعل معيق أو غير منتج. كما أنّه يعتقد أنَّ موقف اللاّمبالاة تجاهها يسهم في تحذيرها ويسمح لها بالقرار”…
ويؤكّد الباحث السيد الحسيني أنّ في مسألة الدين والتديّن، ثمّة حضوراً نقديّاً لافتاً للسيّد فضل الله، لأنّ موضوع نقده ممّا يمسّ جوهر المشروع الفكري والعقيدي الذي ينتمي إليه السيّد فضل الله ويعتقد أنّه الأساس الذي تؤمن به الجماعة الإسلاميّة، والذي يشكّل العنصر الأهم في هويّتها… وللطقوس الدينية في طيات الكتاب كما للمؤسسة الدينية ومشاريعها نقدات ونقدات كثيرة، استقاها السيد الحسيني من مختلف كتابات السيد التي تزخر بها، “… إنَّ أهم ما يؤشّر عليه السيّد فضل الله هو أن لا تكون المؤسّسة التي تحمل عنواناً دينياً مجرّد صورة، ولا تحمل من هذا العنوان إلاَّ الاسم، لأنّه يريد لهذه المؤسّسات التي تحفظ الجوهر نفسه وأن تكون ذا محتوى ديني. ومن دون ذلك فلن تسهم هذه المشاريع وهذه المؤسّسات بشيء، وربّما تكون عبئاً على الإطار الدينيّ الذي أُريدَ لها أن تكون في دائرته وفلكه”…
لا يتردّد السيّد فضل الله في ممارسة النقد الذاتي، ومن داخل المؤسّسة الدينيّة، كونه أحد أبنائها، وفي جرأة وبقوةٍ وعنفوان، من دون أن يعني ذلك التقليل من شأنها أو مصادرة دورها.. ولذلك يفترض السيّد
فضل الله في رجال المؤسسة الدينية بذل الوسع في العمل، وعدم التعاطي مع مهمّتهم كحرفة ومهنة تجاريّة رائجة على المستوى الشخصيّ، بقدر ما هي ناجحة على المستوى الديني والإسلامي.
وفي المبحث الثاني من هذا الفصل عَرضٌ للإطار السياسي الذي لم يكن ليغيب عن خطاب السيد فضل الله، ويأتي في مقدمها القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها، والتي بقيت حية فيه حتى أنفاسه الأخيرة، وكذلك كل القضايا المحلية والإقليمية والدولية التي كانت تعني المسلمين والحركات الإسلامية التي كانت تجد فيه الملاذ الآمن والكهف الحصين، فلم يترك شاردة هنا أو هناك إلا وكان له الرأي الفصل فيه وتجاهها ” يعتقد أنّ واقعاً متخلِّفاً فرض على المسلمين الابتعاد عن الشأن السياسي، والنظر بريبة إلى العاملين في الشأن السياسي، ليتحوّل المشروع الديني والمؤسّسات الدينية إلى مواقع خلفية، تتأثّر بالسياسة ولا تؤثّر فيها”…
وفي المجال العلمي ينقل الكاتب أدق التفاصيل التي كانت لدى السيد فضل الله في هذا المجال، كيف لا وهو الفقيه المتمرّس الذي عصر علوم الفقه وبقره وخبره بجرأة لم يمتلكها من سبقه أو عاصره، وهذا ما ” دفع السيّد فضل الله إلى أن يوظِّف أدواته النقدية ـــ وباحتراف ـــ لتفكيك عددٍ مهم من الإشكاليات المعرفية، إنْ في العقيدة أو التاريخ أو الفقه… وذلك لجهة إيمانه العميق بضرورة تعميم الموضوعية في البحث والتنقيب العلمي، ولجهة إيمانه العميق بنقدِ عددٍ من الأفكار السائدة ذات الأثر الاجتماعيّ، بما لها من آثار ودلالات سلبيّة في المجتمع وحركته…”
وفي هذا الفصل عرض مفصل للمجال التاريخي والعقيدي والفقهي، وبخاصة إعادة الحاكمية للقرآن على الروايات والاعتماد على ما يسمى الفلسفة وفرضها على القرآن!! فيقول السيد فضل الله: “.. نعتقد أنّ على المفسِّر أن يجعل القرآن أمامه، لا أن يكون هو أمام القرآن. علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن، ولا نخضع القرآن لعقائدنا.. نحن نُخضِع القرآن لمفاهيمنا في كثير من الأحيان، وكذلك نُخضِعه لحديثٍ هنا ورواية هناك…”
وفي نهاية الكتاب يقدم السيد الحسيني بعض المعالم والملاحظات، فقد وفّرت الجرأة في شخصية السيّد فضل الله وشجاعته اقتحام مساحات يحظر فيها النقد أو المراجعة أو مجرّد التفكير خارج المألوف، سواء
كان ذلك في العقائد السائدة أو الأفكار المألوفة، أو الأنماط التي يدأب على ممارستها المجتمع، ولا يجدون فيها بأساً أو ظاهرة معيقة، وينهي بـ ” ملاحظته النقدية المهمة تجاه المؤسّسات الدينيّة المتنوّعة، والتي وصفها بالمؤسّسات العائليّة، والتي قد تصادرها وتصادر أهدافها وغاياتها في أحيان كثيرة.
ربّما أعاقت الظروف السيّد فضل الله عن التقدّم في هذين الموردين، ومنعته من تكريس فكرة المرجعيّة المؤسسة، وتحويلها إلى صرح مؤسّسي يُعبّر بصدق كامل عن الأفكار التي شكّلت رؤاه ونقداته طيلة سنيِّ عمره المبارك”…
لم يكن من السهل في هذه القراءة الإحاطة لا بكل ما قدّمه الكاتب ولا بغيض ما قدمه السيد من فيض بحره الفكري والعلمي، ولكن أدّعي أنّ بصمات هذا الكتاب ستترك أثرها على أغلب العقول التي بدأ أصحابها بالسير على خطوات الإسلام وقضاياه، تاركين للأجيال القادمة النهل من معين السيّد.
المؤلف: محمد طاهر الحسيني
إصدار: المركز الإسلامي الثقافي 2015م/1436ه