23 ديسمبر، 2024 11:51 ص

النزعة الديمقراطية والفزعة القبلية

النزعة الديمقراطية والفزعة القبلية

لا تثريب على الإنسان العربي الذي ما برح يرزح ، منذ آماد موغلة في القدم ، تحت وطأة ركام هائل من التجهيل السياسي ، والتضليل الفكري ، والتنكيل الاجتماعي ، والتخبيل النفسي ، والتعطيل الحضاري ؛ إن تختلط في ذهنه المقولات ، وترتبك في وعيه التصورات ، وتتداخل في ظنّه العلاقات ، لاسيما تلك التي تمتلك – بالنسبة إليه – مدلول قيمي يفتقر إليه ، وفائض رمزي يشكو ندرته ، وامتلاء إيحائي يعاني فقدانه . وهو الأمر الذي أفضى إلى تراكم معاناته وتزاحم مآسيه وتفاقم مشاكله وتعاظم نكباته . ولعل مفهوم الديمقراطية يعدّ ، في عرف من دجّنت شخصيته وأهدرت كرامته واستبيحت آدميته ، من المفاهيم السحرية التي ما أن يتناهى إلى مسامعه دوي صداها ورنين جرسها ، حتى يفقد إحساسه بالتاريخ وينسى صلته بالواقع ، معتقدا”انه بمجرد أن يردد تعاويذها ويستحضر طلاسمها ، سرعان ما تشرع أمامه أبواب النعيم الذي طالما حلم به ، ومجالات التطور الذي طالما سعى إليه ، بعدما كان يتلظى بلهيب الجحيم السياسي ويكتوي بمحن التقهقر الاجتماعي . فهو ، على أية حال ، لم يستقى أبجديات الديمقراطية ويستوعب أعرافها من حقول السوسيولوجيا وميادين المعاش ، بقدر ما أتخم بأساطيرها وعبئ بألغازها عبر خطابات الايديولوجيا وفبركات الانفوميديا . ولهذا فقد طبعت صورها في أرشيف تفكيره ونقشت رموزها على بطانة وعيه ، كما لو أنها شيفرة مؤتمتة لا تستدعي لكي تفشي أسرارها وتبيح تابواتها ، سوى استحضارها في الذهن واستذكارها في المخيلة . دون أن يضع باعتباره بأن للديمقراطية – مثلها مثل سائر المفاهيم والمقولات التي اشتقت وتبلورت من خلال تجارب الإنسان / الفاعل مع ذاته ومع آخره (الجواني والبراني) – مقومات وآليات وسياقات ، مثلما أنها تعكس أخلاقيات وتواضعات وعلاقات . وعليه فان الحديث عن متطلبات الأولى يشترط إدراك ضرورات الثانية وبالعكس ، أي بمعنى إن الاهتمام الذي يوليه المرء للمثل والمبادئ الديمقراطية ، لن يجدي نفعا”أو يأتي أوكلا”في بيئة اجتماعية استوطنت عقلها الجمعي مظاهر التخلف الاجتماعي ، واستباحت ذاكرتها التاريخية عوامل التشظي الرمزي ، واستبطنت سيكولوجيتها الاجتماعية هواجس الشك المتبادل والكره المتقابل . فحين تصرّ الديمقراطية على التقيد بمعايير التنوع الثقافي والتباين الديني ، لا تعني ، بالمطلق ، إشاعة التذرر العصبوي (الاثني والطائفي والقبلي) ، من منطلق حرية الآخر في التعبير عن الخصوصيات والتمايزات . وحين تحضّ على التمسك بالتعددية السياسية والمشاركة بإدارة الشأن العام ، لا تبيح ، بالمطلق ، التفريط بسلطة الدولة والإفراط بمظاهر الفوضى والزعرنة ، على خلفية كوارث الديكتاتوريات وفواجع الشموليات . وحين تؤكد على صيانة مبادئ الحرية الشخصية وحقوق الإنسان وكرامته ، لا تقصد ، بالمطلق ، تقويض هيبة القانون والاستغناء عن ضوابط المؤسسات ، بوازع الحد من استشراء ظواهر شخصنة الزعامات وأقنمة الإيديولوجيات . فالديمقراطية ، وفقا”لكل التجارب السياسية والخبرات الاجتماعية والمعطيات التاريخية ، لا تقوم لها قائمة إلاّ في ظل دولة قوية ونظام ممركز ، ولذلك يخطئ خطأ جسيما”كل من يعتقد بان إضعاف سلطة الدولة وتقليص مركزية الحكومة ، هما من علائم شيوع المظاهر الديمقراطية وتعميم فوائدها . كما انه لا أمل في نظام سياسي يدعي انتهاج الديمقراطية في تقسيم سلطاته وتوزيع صلاحياته، طالما إن التهميش والإقصاء والتفاضل قائم بين جماعاته وسائدا”بين علاقاته ، ولذلك يرتكب خطيئة لا تغتفر كل من يظن بكفاية الدعوات والخطابات التي تمجد الفكرة الديمقراطية وتسبّح بحمدها ، على اعتبار إن ذلك يشكل مدخلا”لتوطين قيمها وبداية لتبيئة متطلباتها . فضلا”عن كون إن الديمقراطية ستغدو سلعة رخيصة للمضاربة في سوق المساومات السياسية ، وعملة لا قيمة لها في أتون الصراعات الاجتماعية ، إن حظيت بالمطالبة في مجتمع تتآكله الانقسامات الاثنية ، وتنخره التناحرات الطائفية ، وتتقاذفه الاستقطابات الجهوية ، وتستدرجه التكتلات القبلية ، ولهذا يخرق محرم لا سبيل للتكفير عنه كل من يتجاهل ضرورات ؛ نضج الوعي الحضاري ، ومستوى التقدم الاجتماعي ، ودينامية السياق التاريخي ، وثراء النظام الثقافي ، ومتانة البناء الأخلاقي ، ورهافة الإحساس الإنساني . والواقع إن المشكلة تكمن في إن البعض ممن واتتهم الفرصة وحالفهم الحظ ، لكي يقيموا في ربوع المجتمعات الغربية وينخرطوا ضمن تفاصيل حياة الشعوب التي استوعبتهم ، ومنحتهم القدرة والجرأة للإفصاح عن لواعجهم والإعلان عن رغباتهم ، لم يدركوا الفواصل / الفوارق البنيوية والقيمية والرمزية والمرجعية ، التي تحتكم إليها السلطات في تجاربها وتعبر عنها الجماعات في علاقاتها ، مما يستدعي التأني باتخاذ المواقف ، والحذر بإصدار الأحكام ، والتريث بتبني التصورات ، والتبصر باجتياف القيم ، والا لا مناص من الوقوع في المغالطات التاريخية والالتباسات الفكرية ، والاستلابات الاجتماعية ، والارتكاسات النفسية ، والارتدادات المعتقدية . وبما أن السائد في إدراك الغالبية العظمى من شعوب البلدان العربية ، هو وهج الفكرة الديمقراطية وبريقها المعنوي وليس حقيقتها الملموسة وتجربتها المعاشة ، كما إن الراسخ في اعتقادها صورة النظام الديمقراطي المؤمثل وليس كيانه الواقعي وآلياته الفعلية ، فان أي ملاحظة نقدية للنظريات أو محاولة تصويب للمارسات ، المتعلقة بالنزعة الديمقراطية وما يترتب عليها من التزامات وعلاقات بين الحاكم والمحكوم ، وما يتمخص عنها من أخلاقيات ومسؤوليات بين الأفراد والجماعات ، سرعان ما تثير حفيظتها وتستفز مشاعرها وتستنفر غضبها ، حيال كل من يتطاول على المساس بأصنامها المقدسة والتحرش بأوثانها المحرمة . لا من منطلق الحرص على نقاء الفكرة الديمقراطية من محاولات التبخيس والتدنيس ، التي تتعرض لها خلال مسارها الواصل ما بين قاع المجتمع الممزق وقمة السلطة المخترقة ، كذلك ليس من باب الغيرة على مقوماتها السياسية ومستلزماتها الاجتماعية ومتطلباتها الاقتصادية ومؤشراتها الثقافية ، وإنما من واقع فزعتها القبلية ونزعتها الفوضوية ، المؤسسة على علاقات القوة الفردية والغلبة الجماعية والاستتباع الطائفي والاستزلام العشائري . وإذا كان من حق البعض إن يعبّر عن مخاوفه ، حيال الدعوى الرامية إلى تقوية سيادة الدولة ومركزة سلطة الحكومة ، بواقع المعاناة التي تكبدها والمآسي التي تجرعها ، طوال عقود من الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي والارتهان الإيديولوجي ، فان التضحية بالدولة لن تخفف معاناته وتجفف مآسيه بقدر ما تأزمها وتفاقمها ، وان الزهد بالنظام لن يحقق له الأمن والاستقرار ، بقدر ما يجعله دريئة لأسوأ أنواع العنف وأبغض أشكال التطرف ، وان التطويح بالقوانين والمؤسسات لن يضمن له حريته الشخصية ويصون حقوقه ، بقدر ما يحيله إلى كائن مستباح يفتقر لأي مظهر من مظاهر الحماية ولأي نوع من أنواع الأمان . ولكن – ولأجل إن لا يساء الظن بموضوعنا هذا أو تؤل الفكرة المبتغاة من خلاله – في الوقت الذي لا تستقيم فيه الديمقراطية مع ضياع سيادة الدولة وفقدان هيبة القانون وانكسار سطوة النظام ، إلاّ أنها تقع على طرفي نقيض مع العبودية التوتاليتارية التي تهدر الوطن وتنتهك المواطن . وفي الوقت الذي لا تحبذ فيه أية صيغة من صيغ الاضطهاد القومي والاستعباد المذهبي والتمييز الديني ، التي تفضي إلى تصدع الجغرافيا وتشظي التاريخ ومسخ الهوية وتمزق المجتمع ، إلاّ أنها تتعارض بالكامل مع أي نزعة من نزاعات الاستعلاء العنصري والاستشراء القبلي والإقصاء الطائفي والاستثناء الجهوي . ولعل الكوارث التي لم تفتأ تحدق بالمجتمع العراقي ماضيا”وحاضرا”ومستقبلا”، وتبعا”المجتمعات العربية ، تكفي للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه ، وحجّة لحمل الذين لا يزالون يعانون فقدان الرؤية الموضوعية والعجز عن ملامسة الواقع ، على تصحيح تصوراتهم وتصويب قناعاتهم ، والاّ فان صفعات الوقائع المؤلمة وركلات التجارب القاسية كفيلة بإفاقتهم من الغيبوبة الإيديولوجية وانتشالهم من الغرق الطوباوي .