23 ديسمبر، 2024 3:45 م

النزاهة والشفافية ومابينهما

النزاهة والشفافية ومابينهما

يعالجنا الطبيب إذا مرضنا
فكيف بنا إذا مرض الطبيب؟
ماتقدم بيت للشاعر العراقي الريفي الجنوبي علي الغراوي، الذي لم يمهله العمر من العقود إلا أربعا، وكان دأبه يتغزل في العراق.. ويتألم للعراق.. ويبكي على العراق.. ويتأمل ويتمنى للعراق والعراقيين حياة حرة كريمة، وفارق العراق والعراقيين في النصف الأول من القرن المنصرم، ولم يتحقق شيء من أمله ومناه لافي حياته ولا بعد مماته وحتى ساعة إعداد هذا المقال..! وأراني أتذكر أبياته -رغم قلتها- ونحن نعيش أياما قد تكون منعطفا هاما في حياتنا، حيث ثورة الشعب وانتفاضته على الفساد الذي توغل أيما توغل في مفاصل الدولة، بأشكال وأصناف وأنواع لم نكن نعيها او ندركها، فعلى حد علمنا أن السارق على سبيل المثال لاينفذ سرقاته إلا ليلا، حتى قال في هذا صاحب المثل؛ “الليل ستر الحرامية”..! كما علمنا أن جل مايخشاه الـ “حرامي” هو الـ “چرخچي” وهو حارس الليل، مع أنه -الچرخچي- لايحمل غير صفارته وعصاه، إذ لم يكن مسموحا له بالتسلح بأبسط الأسلحة النارية. وقد تذكرت بيت شاعرنا أعلاه وأنا أسمع خبرا مفاده؛

“أبدت لجنة النزاهة البرلمانية تاييدها لتوجه الحكومة بتطبيق مبدأ “من اين لك هذا”، فيما اعتبرتها “ظاهرة صحية”، وتعهدت بفتح جميع ملفات الفساد”.

وقطعا حضر مخيلتي فور سماع هذا الخبر البيت الثاني لشاعرنا الغراوي إذ يقول؛

ولاحيف إذا فسد الزواني

وكل الحيف لو فسد النجيب

ولاأبالغ في شيء إن قلت أن السنوات الإثنتي عشرة الأخيرة التي مرت على العراقيين، حملت صورا وقصصا يشيب لها الوليد من هول الفساد الذي حوته، وما زاد الطين بلة هو الرؤوس والـ (صماخات) التي شكلت عصابات بأذرع أخطبوطية، توسعت وتمددت في مؤسسات البلد ومرتكزاته بأعلى المستويات، حتى بات الفساد السمة الواضحة في أية مؤسسة حكومية، بدءًا من “العارضة” وباب النظام مرورا بالاستعلامات ثم الواردة فالسجلات فالمتابعة… صعودا الى المدير والمدير العام والوكيل… وانتهاءً بالوزير، وإن رمت استثناء أحد من هؤلاء فإن أصابع الاتهام تشير الي بالتواطؤ والتستر على الفساد.

ومع استمرار إصغائي للخبر ذاته، دقت مسامعي عبارات معسولة، فتحت أبواب الأمل مشرعة على مصاريعها، منها ماقاله عضو في لجنة النزاهة، مؤكدا ملاحقة رموز الفساد وكشف أوراقها ليتسنى القضاء عليها، إذ قال؛ “هناك ملفات فساد كثيرة ونتعهد بان تقوم لجنة النزاهة البرلمانية بفتح جميع الملفات القديمة والجديدة لغرض عرضها على القضاء وهيئة النزاهة ومحاسبة الفاسدين”. وقد طار قلبي هنا غبطة وسرورا، إذ هو حلم خلته بعيد التحقيق، ومطلب ظننته صعب المنال، ذاك هو عراق خالٍ من الفساد. وهنا حضرتني أبيات لشاعرنا يحيى السماوي يقول فيها؛

نخر الأسـى قلبي مالعراقنـا

في كـل يوم داحـس وبسـوس

تموزه عــار علـى أعوامنـا

ويفوح من نيسـانه التدليـس

أه علـى زمـن تعثـر فجــره

فاستعبدت أرض الأسود تيوس

فإذا ابن طاهرة الثياب مشرد

وإذا ابن صائدة الرجال رئيـس

فاستعدت على عجالة صور الفساد المريعة التي قرأت عنها وسمعت أحداثها الجارية في عراقنا اليوم، وقلبت في مخيلتي روايات التستر على الفساد من قبل المسؤولين على كشفه والقضاء عليه، والذين تقع على عاتقهم مسؤولية تطهير البلد من المفسدين، فأيقنت أن التظاهرات لابد أن تستمر ولاتتوقف عند توفير الكهرباء والخدمات، فالغول الكبير الذي تسيره مافيات البلد الكبرى بإمكانه التهام آلاف التظاهرات، وباستطاعته إسكات جميع الصيحات المنادية بحقوق المواطن، ونكون حينها ملزمين على الخنوع والخضوع من جديد رغما عن النزاهة والشفافية.

[email protected]