منذ أن وطأت القوات الأمريكية المحتلة أرض بلاد الرافدين في 2003 وتنصيب الأمريكي (بول بريمر) حاكماً مدنياً، دخل العراق في المجالات كافة عصراً جديداً سواءً في الجانب السياسي أو الإداري وحتى الاجتماعي والثقافي، وقد برع أيما براعة في تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، ابتداءً بقرار حل الجيش العراقي وتأليف مجلس الحكم الذي كان بذرة المحاصصة القومية والطائفية المدمرة، وانتهاءً بسنّ قانون إدارة الدولة الذي كان النسخة المصغَّرة للدستور العراقي الدائم المفعم بألغام أنتجت كوارث نلمس آثارها اليوم.
لم تكن العملية السياسية منذ تشكيل مجلس الحكم، ومروراً بسن قانون إدارة الدولة وكتابة الدستور، والحكومات التي أفرزتهاالدورات البرلمانية السابقة، قائمةً على أساس صحيح ومتين، بل على أساس جرف هارٍ ومعايير قومية وطائفية وحزبية وفئوية أوهن ــ إن حكَّمنا العقل ــ من بيت العنكبوت، فأصبحت (الكابينات) الوزارية ودوائر الدولة ومؤسَّساتها بما في ذلك مناصب وكلاء الوزارات والمديرين العامين على شكل (كانتونات) وحصص، حتى وصل الأمر ببعض الوزارات أن يكون الموظفون في الوزارة ينتمون إلى طيف واحد من أطياف الشعب العراقي ابتداءً من عمال الخدمة
وصولاً إلى القيادات العليا، وهو ما أدَّى بدوره إلى استشراء الفساد وتكوين مافيات له، يصعب على أعلى سلطة في البلد محاربتها أو حتى التفكير بمساءلتها، وأمست عملية الاستجواب التي يقوم بها البرلمان بحقِّ الوزراء منذ عهد وزير الدفاع الأسبق (حازم الشعلان) وزميله في الكابينة الوزارية نفسها (أيهم السامرائي) وزير الكهرباء الأسبق، مروراً بوزراء الحكومات المتلاحقة من حكومة الجعفري وليس انتهاءً بحكومة المالكي كوزير التجارة الأسبق (فلاح السوداني) ووزير الكهرباء الأسبق (كريم وحيد) أمست كلها مجرد عملية صورية، بل أصبحت تلك العملية
(الاستجواب) خاضعة لعملية المساومة، فإذا أريد إسقاط الحصانة عن نائب أو وزير لوجود تهم فساد أو إرهاب انتفض أعضاء الكتلة التي ينتمي إليها ووسموا ذلك الإجراء بأنه استهداف سياسي أو ….. وأخذوا يساومون الكتل الأخرى بفتح ملفات وزراء تلك الكتل أو نوابها أو رشوة بعضهم للتراجع وسحب التوقيع الخاص بالمطالبة بالاستجواب.
هذا الوضع المزري أدَّى إلى تفشي الفساد في مؤسَّسات الدولة كافة الذي أنتج بدوره ما حصل من انهيار للجيش العراقي في الموصل، واحتلال مساحة كبيرة في الأنبار وصلاح الدين، حتى بلغ صبر العراقيين الزبى، فخرجوا بتظاهرات حاشدة للتنديد بالفساد ونقص الخدمات والعملية السياسية المعوجة، وهو ما أجبر الحكومة على تقديم حزمة من الإصلاحات التي قُدِّمت إلى البرلمان؛ من أجل إقرارها ، ولم يكن لهم من الأمر شيء، فصوَّتوا لها مجبرين مكرهين، مما يعني أن الشعب بإصراره على المطالبة بحقوقه المشروعة قادرٌ على إجبار السياسيين على الرضوخ لمطالبه؛ مما يحفز
المتظاهرين على الاستمرار بالتظاهر للضغط أكثر؛ من أجل تحسين الوضع السياسي والإداري والمالي والاقتصادي في البلد، وإصلاحه بما يؤمن حياة كريمة يهنأ في ظلها المواطن بالعيش الرغيد.
إن الحشد الجماهيري الذي خرج لمواجهة الفساد السياسي والإداري والمالي في عموم المحافظات الوسطى والجنوبية هو بادرة خير على تبلور الوعي لدى الشعب، وهو يشكل انتفاضة وحشداً مدنياً ــ كما عبَّر عن ذلك بعض الناشطين والإعلاميين ـ لمواجهة الفساد موزاياً للحشد الشعبي العسكري الذي يقف في جبهات القتال لمواجهة خطر (داعش) الإرهابي.
في ظل هذا الوضع الملتهب والرأي العام الساخط على الفساد والمفسدين وتحرك الحكومة للإصلاح في المجالات (الإداري والمالي والاقتصادي والسياسي) ينبغي لهيأة النزاهة أن تقتنص هذه الفرص الذهبية؛لإنجاز ملفات الفساد، وأن تطيح بالحواجز السياسية التي وصفها أحد رؤساء الهيأة السابقين بـ”الكونكريتية” التي تحول دون مكافحة الفساد، إذ لم تكن تتهيأ لهيأة النزاهة منذ تأسيسها أواخر 2004 إلى الآن فرصة مثلها، فكل الظروف الموضوعية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو خدمية أو جماهيرية مؤاتية لفضح الفاسدين والمفسدين، والضرب على أيديهم وتقديمهم للقضاء
والتشهير بأي كتلة سياسية تقف حائلاً دون إجراء التحقيقات الخاصة بملفات الفساد، لا سيما أن رئيس الهيأة أكَّد في تصريح له عند زيارته لوزارة التجارة (أنَّ الهيأة ستطال الفاسد مهما كان موقعه، وأنَّها لن تتوانى في محاربة المتلاعبين بقوت الشعب، ولن تقف متفرِّجة أمام التجاوزات على المال العام) وفي زيارته لوزارة الكهرباء قال: إن الهيأة”ستضرب بسوط القانون كل من تسول له نفسه التجاوز والتلاعب بالمال العام وإن للمفسدين بأيهم السامرائي لعبرة”.
إن إجراءات الهيأة المعلنة إذا ما فُعِّلَت وإذا ما استطاعت ــ بالتعاون مع وزارة الخارجية والداخلية عبر مفاتحة الانتربول ــ استرجاع أيهم السامرائي وحازم الشعلان وفلاح السوداني والأصول المالية المهربة، أعتقد أن ذلك سيجعل الجماهير ــ كما أيدت حزمة الإصلاحات التي قام بها رئيس الوزراء العبادي ــ أنها ستدعم وتفوض الهيأة بالنيابة عن الشعب ملاحقة الفاسدين واسترجاع واسترداد الأموال المنهوبة وإن كان ذلك لا يحتاج إلى تفويض؛ إذ إنَّه من أهم واجبات هيأة النزاهة واختصاصها، وأنها ، أي الجماهير ، ستهتف في ساحة التحرير وفي الساحات أجمع
للنزاهة وتندد بكل من يدافع عن الفساد أياً كان مشربه وانتماؤه، وهو ما حصل فعلاً،فالشعارات التي هتفت بها الجماهير المحتشدة في ساحة التحرير في هذه الجمعة (أي الجمعة الثالثة) والجمعتين اللتين سبقتاها ، وإن اختلفت في الاتجاهات والمشارب، لكن ما يلفت النظر أنها يجمعها هدف بارز جداً لا يصعب على كل من ذهب إلى ساحة التحرير أو تابع أحداث التظاهرات من شاشة التلفاز أو مواقع التواصل الاجتماعي تشخيصه، وهذا الهدف هو محاربة الفساد واجتثاث أصول المفسدين وإحلال النزيهين محلهم، وكان من تلك الشعارات “جمعة ورةجمعة..وكل فاسد نطلعه” و “حرامية حرامية
..والله شلعتواﮔلوبنه حرامية” وغيرها من الشعارات التي تشخص بعض وجوه الفساد أعرضت عن ذكرها؛ لقساوتها ولربما للعبارات التي أختلف مع المتظاهرين في إطلاقها على الرغم من صدق النية وأحقية القضية.