النجاحات الوهمية

النجاحات الوهمية

يبدو أن من يعيش في زماننا بات ملزماً بأن يكون مشهد النجاح الوهمي والفرح باللا شيء جزءاً من حياته وسياقاً عليه أن يتعايش معه سواء أكان الأمر متعلقاً به شخصياً أم بأحد أفراد عائلته أو من يرتبط معهم بصلة قربى..

ولم يعد الأمر مرتبطاً بالحياة الاجتماعية للناس بل إن الأمور باتت تشمل جميع مفاصل الحياة ومستوياتها بما فيها المستوى الرسمي..

ولك أن تتخيّل أن طفلاً لا يتجاوز الثالثة من عمره يكمل مرحلة الحضانة وهو لايزال يرتدي حفاظته ولا يتقن من الكلمات إلاّ الأولية منها وهو يتسلّم شهادة إكمال هذه المرحلة التعليمية الأوليّة جداً وسط أجواء احتفالية بتخرجه وكأنه صنع العجلة فيما تعجّ قاعة الاحتفال بالأغاني الحماسية التي تجعل الواحد منا يظن نفسه بطلاً من حديد وإن كان من ورق.

هذا المشهد يعيشه الطفل المسكين بمشاعره الأولية الفطرية حتى يكاد يكون جزءاً من تصوره للحياة في قابل عمره فيتصور الحياة بأجمعها مرتبطة بهذه الصورة الذهنية لحفلة التخرج وارتداء الزي الرسمي وحمل الشهادة وفرحة الأهل.

مواسم التخرّج هذه أفرزت حالة جديدة مرتبطة ببقية جوانب الحياة لكنها يا للأسف حالة غير صحية نجم عنها أعراض لأمراض نفسية منها المتعلّق بالهشاشة والشعور بالنقص والاضطراب الذهني والاكتئاب، فترى الطالب في المدرسة -وتحديداً المدارس- يعيش حالة من التحدي لاسيما في الصفوف المنتهية وهو يحاصر بجملة ضغوط متعلقة بالدرجة الإمتحانية والنتيجة المطلوبة والتخصّص المراد من قبل الأهل وإن كان كل ذلك لا يتناسب مع قدرات الطالب وإمكانياته وتحت شعار (أنك تقدر) أو أنه ما كان مناسباً لفلان فمناسباً لك بكل تأكيد.  على الرغم من أننا جميعاً نعلم بفطرتنا البسيطة أن الناس متفاوتون في الأفهام والقدرات الذهنية والعقلية والجسدية وأنه (كلٌّ ميّسر لما خلق له) كما يقول النبي (صلى الله عليه وسلم).

وبطبيعة الحال فإن لوسائل التواصل الاجتماعي وما تزرعه في النفوس من النجاحات السريعة والثراء السريع أثرت بشكل كبير وعلى جميع الناس والمستويات، فأصبحنا أمام حالة من عدم القناعة بكل شيء وأي شيء مهما كان وأيّاً كان كيف لا وهناك دوماً الأفضل، والأغنى والأقوى والأجمل..

تعظيم اللاشيء في النفوس والفرح بالنجاحات الوهمية لم يكن بعيداً عن الجانب الرسمي هو الآخر.. فالدولة بأعلى مستوياتها وتشكيلاتها تعيش هذه الحالة وترسخها سياقاً في عملها، وإذا ما أردنا الحديث عن مجتمعنا دون غيره فلنا أن نتذكر حفل افتتاح دورة مياه في مطار بغداد وافتتاح مصعد في إحدى الجامعات وافتتاح شارع فرعي ورفع أنقاض إحدى المناطق، وجميعها احتفالات رسمية تحضرها الدولة بمستوياتها العليا بما يرسّخ في نفوس الناس أن اللاشيء هو شيء.

وأذكر هنا مشهد من فلم عراقي قديم يحمل أسم (السيد المدير) وبطله الراحل راسم الجميلي والذي كان يؤدي فيه دور مدير إحدى الدوائر، وبعد أن سيطر عليه مجموعة من المنتفعين أقنعوه بسلسلة مشاريع “وهمية” لسرقة الأموال المخصصة لها، وهذا ما كان.

وفي حفل الافتتاح وقف الراحل راسم الجميلي على منصة رسمية لإعلان إنجازه لمجموعة ضخمة من المشاريع وسط حضور رسمي كبير، فيما كانت تحجب المشاريع عن الرؤية مجموعة من الحواجز الحديدية العالية، ولما انتهى الجميلي من كلمته هبت عاصفة قوية حملت معها الحواجز الحديدية ليظهر أن ما خلفها ليس إلاّ أرضاً فارغة لا بناء فيها.

إن حالة الوهم التي نعيش لن تستمر طويلاً وموعدها أول عاصفة حقيقية تضرب الحواجز المجتمعية والسياسية التي أحطنا بها المشاريع الوهمية سواء أكان الأمر مجتمعياً أم سياسياً.