من المعروف أن العرب كانوا في قديم الأزمنة في عهود البداوة والرعي ليس لديهم وظائف في الحياة أو مهنا حرة إلا في أبسط أشكالها وهم ربما يهتمون بقصص غرامهم وعشقهم وحبهم وهيامهم بحبيباتهم والمشاركة في غزوات القبائل الأخرى وبخاصة فرسانهم الأشاوس للحصول على الغنائم أكثر من إهتمامهم بوضع لمسات لكيفية إدارة شؤونهم وتجاوز محنة قساوة الحياة عليهم..لكن هذا لايعني أنهم قليلو التدبير ولم يهتموا أبدا بوضع ملامح ولو صغيرة لإدارة شؤونهم.
كانت حياة العرب في الغالب تعتمد على العيش في الصحارى والبوادي وقرب الوديان والأنهار وقد إمتهنوا (رعي الإبل والأغنام) أكثر من إهتمامهم بوضع (خارطة طريق) لتجاوز تلك المحن التي واجهوها وقد قضوا معظم سنوات عمرهم أنذاك في اللهاث وراء (عمليات الغزو) و (إستعباد الآخر) حتى لو كان هذا (الآخر) قريبا لهم أو من أبناء جلدتهم.
لم يهتم العرب للأسف الشديد لا في زمان الأقدمين ولا في زماننا هذا الذي يسمونه بـ (عصر الديمقراطيات) بـ(الخبرات الستراتيجية) و(مهارات الإدارة) التي إمتلكها النبي يوسف (ع) قبل آلاف السنين وكيف قد أسهم هذا النبي بوضع ستراتيجية علم الإدارة وعلم المخازن وهي من أسهمت بإنقاذ شعب مصر في سنوات عهده الحافلة بالإنجازات الكثيرة.
وبقي الجدل يحتدم في جلسات العرب الأقدمين والمحدثين وفي كتب التفسير والتراث حول كيفية (شق قميص يوسف)..وهل شق قميصه من قبل أو من دبر وإستمر الجدل بشأن التحقيقات حول تلك الحادثة لفترة طويلة ومن قبلها قصة (البئر) الذي وضعه إخواته فيه والقصة المعروفة عن (غيابت الجب) وكيف أنقذه (السيارة) هذا الشاب الصغير وهو النبي يوسف في تلك القصة المعروفة.
الجدل يحتدم حول زليخة
وبقي الإهتمام لقرون طويلة ينصب بإتجاه هيام (زليخة) بالنبي يوسف وغرامها وولعه به الى أن إضطرت (المسكينة) بعد أن وجه اليها (الإتهام) الى أن تتقدم الى (هيئات النزاهة) و(تعترف) أمام (الأشهاد) أنها هي من (شقت قميصه) وأن (يوسف) كما أكدت أمام الملأ (بريء) من كل إتهام وأقرت أنها هي من (تحرشت) به ولم يتحرش يوسف بها وهي لم تكن على شاكلة (فايشنسنات) هذا الزمان ولم تستقل زليخة سيارات (تاهو) أو (مرسيدس أس كلاس) حاشاها الله كما إنتشرت في شوارع ممالك السلطة ومدنها الخضراء.
وما يزال الجدل في أقطار العرب والعراق بوجه خاص (يحتدم) في كل جلسات النقاش وعلى مستويات الأرشاد الديني والمجالس العشائرية حول تلك الحادثة (واقعة التحرش) بالتخصيص بالرغم من أنها لم تواجه في ذلك الزمان بـ (الدكة العشائرية) أو مواجهة مظاهر (المحتوى الهابط)..ولم يتم التمعن من العرب في كل بلدانهم في مدلولات سورة يوسف وما قدمه هذا النبي من خدمة جليلة للبشرية بأن وضع (خارطة طريق) لـ (علم الإدارة) ووضع لبنات (علم المخازن)، الذي يدرس اليوم وعلى أعلى المستويات في جامعات عريقة.
بل الغريب أن سورة يوسف يتم ترديدها في مراسم الفواتح أكثر من أي مكان آخر حاليا بالرغم من أن المناسبة هي (مأساة) أو (مأتم) لذكر فضائل الموتى والترحم عليهم وأن نذكر محاسنهم لكنها في الأغلب تحولت الى مناقشات لأوضاع الناس المعيشية ومناسبة للفواتح الكبرى للتفاهم بين أقطاب الكيانات السياسية حول كيفية تجاوز محنهم السياسية.
وما أن نغوص في أعماق تأريخ العرب الأقدمين حتى نجد أن القصص والحكايات التي يرددها الكثيرون عن النبي يوسف ومنها قصص القرآن الكريم كانت تدور في الأغلب حول هيام (زليخة) بالنبي يوسف (ع) وكيف راودته وشقت قميصه وكيف رفض الرجل (الإنصياع) لرغبات (زوجة الملك) التي هامت به وهم بها بعد أن أسر قلبها يوسف بجماله وفتونه وشخصيته الكارزمية التي جعلت بنات الحي (يقطعن أيدهين من خلاف) ما إن رأين يوسف بعد أن مر من أمامهن في الدعوة التي وجهتها (السيدة الأولى) بمصر في بيتها ولم تكن لا في فنادق مصر الكبرى أو في فندق الرشيد بالعراق ولا في قاعات الدرجة الأولى للأفراح والمناسبات..بل أن الدعوة كانت قد وجهتها (زليخة) لنساء وبنات مصر ومن نسائها اللواتي يتمتعن بالشهرة والمال والجمال في قصرها العامر لمعرفة تداعيات تلك القصة المأثورة..وما أشارت اليه الآية القرانية : فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) سورة يوسف.
ولم تتقدم زليخة بالشكوى في وقتها الى أي من الرئاسات الثلاث في مملكتها ولم تستنجد بالمحكمة الإتحادية في زمانها لتوجيه الإتهام ليوسف بل ذهبت لحل مشكلتها بنفسها وإعترفت للملك (زوجها) بأن النبي يوسف كان بريئا من التهمة الموجهة اليه عبر حملات دعائية صاخبة واجهتها من أطراف عدة حتى إستطاعت إنهاء الأزمة بأقصر الطرق بأن وجهت دعوة لكبار نساء مصر لحضورها كما أشرنا وجرى ماجرى..وما إعترفت به لاحقا من أنها هي من كانت قد راودته وشغفت به وهو قد رفض الإنصياع لرغباتها الى أن وضعته في السجن عقوبة لعدم تنفيذ رغباتها والآية الكريمة بدعوة يوسف لربه : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ سورة يوسف (33).
غياب خططنا الستراتيجية
نقول بعد تلك المقدمة القصيرة التي سقناها عن عدم إهتمام العرب الأقدمين بكيفية وضع لبنات أو أسس عمل لكيفية خلاصهم من عيشهم القائم على الغزوات و(اغتصاب) حق الآخر حتى نجد أنفسنا امام عهد أحد المبدعين في علم الإدارة وهو النبي يوسف (ع) وكان بمثابة وزير المالية في عهد ملك مصر أنذاك وقد أسس لنا النبي يوسف (خارطة طريق) تدلنا على كيفية بناء ممالك أو دول تتجاوز بها الأزمات الاقتصادية والمالية التي نمر بها وهو من أول من وضع ( خطط الموازنات) وسبق مجلس النواب ومجلس الوزراء العراقي في إعداد تلك الخطط بعشرات الآلاف من السنين وهم الذين لم يتقنوا حتى الآن ادارة بلدهم أو مواجهة غول الفساد الرهيب في بلدهم وكيف يقودونه الى شاطيء الأمان بالرغم من كل الثروات التي حباهم بها الله وأنعم بها على هذا البلد ومنها النفط وثروات لاتعد ولا تحصى.
ومع هذا بقي الفساد الذي إستشرى في كل مفصل يأكل معظم هياكل الدولة العراقية ويظهر ذلك قصور القائمين على إدارة السلطة ومن إمتلكوا المليارات وما إمتدت اليه أياديهم من ثروات شعبهم في كيفية تجاوز الأزمات ووضع الحلول العملية التي تسير بشعبهم الى بر الأمان.
يوسف أرسى دعائم علم الإدارة
أجل.. يعد النبي سوف عليه السلام أول من وضع اللبنات الاولى لـ (ستراتيجية علم الادارة وإدارة المخازن) على وجه الكرة الارضية ويعد هو أول (أمين على خزائن الأرض) وهو بمثابة وزير للمالية كما أشرنا وهو يعد بحق مؤسس على الإدارة منذ مئات القرون كما ورد في سورة يوسف (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (55).
ونقل عن النبي يوسف في القران الكريم قوله للملك الذي يتولى زمام الحكم في مصر أنذاك (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) سورة يوسف 55 أي أنه دعا الملك بعد ان تحققت براءة يوسف (ع) أن يجعله من خاصته للتخطيط لإنقاذ شعب مصر من أزماته المعيشية أنذاك.
لقد وضع النبي يوسف الأساس العملي لعلم إدارة المخازن في القصة القرانية المعروفة عنه (سورة يوسف) إذ لم تعرف الدنيا وعهود من سبقوه من أسس مخازن للغلات والحبوب بالطريقة التي تمكن من خلالها النبي يوسف من حفظ حقوق البشر وأموالهم فكان أمينا لبيت المال بل هو أول أمين يمكن تسميته في تلك العهود المشرقة من الحضارة قبل مئات القرون من السنين وعرف كيف يدير شؤون مملكته حتى أوفى الأمانة حقا بعد سبع سنين عجاف من الجفاف في مصر سبقتها سبع سنين ممطرة أفاضت بالخير على مملكة مصر واستطاع بحنكته أن يضع الخطط الستراتيجية لكيفية إرساء علم جديد للادارة يحفظ أموال بلده وشعبه وينقذ مصر مما قد تعانيه في السنوات المقبلة أي وضع ( خطة سبعية) وليست (خطة خمسية) لإدارة شؤون مصر كما يجري في كثير من دول العالم المتقدم الآن.
رسم السياسات الاقتصادية
ويقال في الأدبيات المصرية إن النبي يوسف (ع) طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً.
وكان النبي يوسف عليه السلام قد رسم ملامح (خطة تقشف) يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة ومَنْ لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً. ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق أي: يقول رَبُّ الأسرة الفقيرة: خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام على البطن فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: ” المؤمن يأكلَ في مِعيٍّ واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء“وكان التموين في سنوات الجَدْب يقتضي دِقَّة التخطيط، ولا يحتمل أيَّ إسراف.
وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يُدفع فكل إنسان سيأخذ على قَدْر ما معه وبعد أن إنتهت سنوات الجَدْب وجاءت سنوات الرخاء أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سُئِل: ولماذا أخذتَ منهم ما دُمْتَ قد قررت أن تردَّ لهم ما أخذته؟ أجاب: كي يأخذ كل إنسان في أقلَّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
النقود ظهرت في عهد النبي يوسف!!
وفي إكتشاف أثري هو الأول من نوعه لآلاف القطع الأثرية الصغيرة الموجودة في مخازن المتحف المصري تم التوصل الى أن هذه القطع هي عملات نقدية مدون عليها تاريخ سكها وقيمتها أو الحكام الفراعنة الذين صدرت في عهودهم وبعضها يرجع إلي الفترة التي عاش خلالها سيدنا يوسف (ع) في مصر وبعضها يحمل صورته واسمه.
وكان الإعتقاد الخاطئ لدى المصريين انذاك أنه كانت تتم مقايضة القمح المصري بسلع أخرى لكن المفاجأة هي أن آيات القرآن الكريم تشير بوضوح إلي أنه في عهد النبي يوسف ( ع ) كانت مصر تتعامل بالنقود.
حكاية هذا الكشف يرويها رئيس المجموعة البحثية المصرية قبل سنوات الدكتور سعيد محمد ثابت رائد جمعية محبي الآثار والذي قال إنه في أثناء بحثه حول آثار النبي يوسف عليه السلام .. لقد عثر علي تمائم كثيرة في مخازن هيئة الآثار بالمتحف المصري ودلت علي أزمان مختلفة قبل وبعد الوزير يوسف ومنها عملة تحمل صورته باعتباره وزير الملك وهو القائم وقتها علي الخزائن المصرية أو في وظيفة وزير المالية في زماننا.
وكان الشائع بين الباحثين وعلماء الآثار أنه لم يتم تداول عملات في تلك الحقبة ولم تكن فكرتها موجودة من الأساس وحتي الحقب المتأخرة من التاريخ المصري القديم وكان المعتقد أن المعاملات التجارية كانت تتم بطريقة المبادلة أو المقايضة تكون مثلا بكمية من القمح في مقابل كمية مساوية من التمر أو الفاكهة أو غيرها.
ويقول الباحث سعيد محمد ثابت أن ما يؤيد هذا التوجه بالاعتماد علي المبادلة هو عدم إكتشاف عملات أثرية في مقابر المصريين القدماء أو ضمن الأثاث الجنائزي الذي يحتفظون به في المقتنيات الخاصة بمقبرة المدفون لما بعد عودة الحياة له.
ودعا الدكتور سعيد ثابت مجموعة بحثية للعودة إلي نصوص القرآن الكريم لتأكيد هذا المعنى” بوجود آيات تنص علي وجود عملات مصرية قديمة تداولها المصري القديم وكانت تعرف بالدينار كما في الآية (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) وكما ورد في دعاء موسي عليه السلام (ربنا إطمس علي أموالهم وأشدد علي قلوبهم), وهذا ما يؤكد وجود العملة والأموال الدالة عليها في هذه العصور وكذلك في سورة القصص حينما قال قارون عن ماله: (إنما أوتيته علي علم عندي) إضافة إلى احتواء الآية علي كلمة خزائن مما يفيد بوجود العملات التي كانت تخزن بها”.
وتعرف الباحث علي أزمنة كثير من هذه العملات النقدية خاصة تلك التي تحمل رموزا خاصة بزمن نبي الله يوسف عليه السلام ومنها قطعة نقدية وحيدة تحمل مدونات كتابية وصورة رمزية لبقرة ترمز إلي منام الملك الذي حلم بسبع بقرات سمان وسبع عجاف. وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات وكشف عن أن المدونات الكتابية في تلك الفترة المبكرة تميزت بالبساطة وذلك لأن التدوين كان في بداياته مما جعل هناك صعوبة في ترجمة المدون علي تلك العملات ولكن مجموعة البحث توصلت إلي تلك الترجمة بمقارنتها بالنصوص الهيروغليفية الحديثة والمعروفة والأكثر قدما منها فقد تم التدوين باستعمال مجموعة رمزية للملك وهي عبارة عن الكأس الملكية المعروفة بالسقاية أو الصواع الذي كان يرمز دوما للملك.
هذه هي الحقيقة عن الدور الكبير والاكتشاف العظيم للنبي العربي يوسف عليه السلام وهو واضع أول ستراتيجية لعلم الادارة في العصور القديمة والان ضيع العرب طريقهم بعد أن أضاعوا تاريخهم وشخصيتهم ومكانتهم وسلموا أنفسهم بيد قوى كبرى والبنك الدولي وقوى أقليمية تتحكم فيهم بعد أن كانوا لقرون هم الأمة الكبرى التي حكمت العالم لقرون طويلة والآن قد تنكروا لعروبتهم ودينهم وقد راحوا يتعكزون على هامش التاريخ ليبحثوا لهم عن مكانة لكنهم أضلوا أنفسهم بعد ان أضلوا مكانتهم ودورهم وسلموا مقدراتهم لمن لايستحق المكانة وصارت الأغراب تتحكم فيهم..
فأين أنتم يا بلدان العروبة ويا بغداد الأمجاد وعراق الحضارات الشامخة ويا بلد هارون الرشيد وعصره الذهبي..واذا بالأقدار تلقي بكم خارج التاريخ..فهل يجوز هكذا يا أهل العراق؟؟