23 ديسمبر، 2024 6:02 ص

النبي الذي صُلب على جدران السياسة …!

النبي الذي صُلب على جدران السياسة …!

أجمل ما أدركته في الحياة الدنيا، إن الفكر لا يقتله الرصاص…! والرصاص هنا: كناية عن قوة السلاح الذي يستخدم لِوَأدْ ولادة الفكر، ومن الملفت للنظر، إن تعامل الحكام, والملوك, والرؤساء, بقوة السلاح لتحجيم الفكر والإرادة تعامل سلبي، إلا إنه يعطي مردود إيجابي عاجلا أم أجلاً، كما حدث في كربلاء عام ( 61 )هجرية، بقتل “الحسين” ومحاولة دفن فكره، بسيوف ومعاول الحكم الأموي، على سبيل المثال…!
الفكر؛ لا يغيبه أو يقتله التفاعل بين الفعل و ردة الفعل، بل إن “المجتمع” الذي يحتضن ويحيط الفكر، هو الأداة الوحيدة القادرة على التأثير به وأضعافه…! كمثل “سليمان النبي” عندما أراد محاسبة طائر الهدد على ذنب أقترفه، آمر بان يسجن في بيت الدجاج الداجن…! الأمر الذي أبكى الهدد دماً، إذ يرى نفسه من عَلية الطيور ومليكها ببصيرته وفكره الواسع، وعندما سأل أحدهم “سليمان” عن تساهله بمحاسبة الهدد، قال: يملك الهدد من العقل والفكر، ما يجعله بسجنه هذا، أن يتمنى الموت فلا يجده….!

من هذه المقدمة البسيطة نخرج بنتيجة تقول: أن المجتمع هو اللاعب الأساسي في تقرير مصير الفكر والإرادة، وهو المساحة التي يتحرك ويعتاش بها من خلال خلاياه، فأما يلتزمه ليحييه ويحيي به نفسه..! أو يزهد به وينكره فيميته ويميت به نفسه..! ومن المؤسف المخجل والمتعارف عليه على إمتداد العصور والأزمنة، نجد المجتمع ميال لتحجيم الفكر وقتله..! وخاصة في المجتمعات الإسلامية والعربية بالذات ..!

المجتمع؛ هو من جعل “علي إبن أبي طالب” يقول: (أيا ياأيها الموت الذي ليس بتارك … أرحني فقد أفنيت كل خليلِ ..! )، وأوصله لمرحلة يدعوا بها:( اللُهم أبدلني بخير منهم..! وأبدلهم بشر مني..!)، المجتمع؛ هو من أوصل “فاطمة الزهراء” بأن توصي دفنها ليلاً بعيداً وخفية عن مرأى ومسمع المجتمع المنحرف الذي ظلمها…! المجتمع هو من جعل “الحسن” يترك العراق بقوله:(والله لو وجدتم فيكم عشر نفر، كأصحاب ابي “علي”..! لبقيت معكم ونهضت فيما أرى به قوة لإحقاق الحق)..! المجتمع؛ هو من جعل “الحسين” يبكي على قبر جده قبل أيام من مقتله و يقول: (ضمني يا جد في هذا الضريح .. علني من بلوى زماني أستريح..! ضاق بي من فرط الأسى كُل فسيح.. فعسى قبري يندك بين الدكتين)..!

على تلك الدلائل والقرائن في المجتمع، تقودني الأدلة القاطعة الى شخصية, عراقية, إسلامية, سياسية، عاشت أشبه بما عاشه الهدد مع الداجن…! أو الأئمة في مجتمعاتهم، فكانت ظلامته على مستويين..! مستوى الفضاء الوطني السياسي، والذي يشمل شركاء الوطن، بأنهم لم يستخلصوه لأنفسهم في وقت كان هو للجميع…! ومستوى داخل أطر البيت الذي هو منه، والذي مازالت ظلامته قائمة الى اليوم بداخله، في وقت كان هو منهم ولهم، فحريا بأن اقول بتلك الشخصية وهو السيد الراحل “عبد العزيز محسن الحكيم” بأنه (النبي الذي صلبه قومه على جدارن السياسة)..!

كان هذا الرجل وريث مدرستين في وقت واحد..! مدرسة علم و دين، يرجعها التاريخ ليدونها زعامة مرجعية دينية، ومدرسة سياسة وجهاد؛ تستقطبها الأجيال لتتخذها قيادة جماهيرية، ولكن كل ذلك وللأسف، ذهب أدراج أقدام المجتمع الداجن، الذي لم يكن بمستوى لملمة ذاك الافق الفكري السياسي للاستفادة منه، مجتمع خرج من قيود الظلم والحرمان والعوز وتحجيم الأفق والفكر، ليجد نفسه في فضاء تجربة سياسية منفتحة بالإفراط..! تسلط به الفساد والإعلام المظلل والمصالح والتصارع حول السلطة..! فأرجعه مباني السذاجة والجهل، ليصل به المقام الى تسقيط ومحاربة ذاك “الوريث” الذي كان يرى وجوده إنقاذ للمجتمع المسكين، فراح ضحية..! مابين فكره وبصيرته، وإنحراف المجتمع الداجن الذي يحيطه.!

كان ميالا وبشدة، لإنتزاع حقوق شعبة من قوات الإحتلال في العراق، حتى كان يصرخ مراراً وتكراراً بوجه المفاوضين والمتباحثين بالشأن العراقي، فيتهمونه لكثرة جلوسه على طاولة التحاور بأنه عميل لهم…! كان يكرس واقع الحكم الإسلامي الحقيقي في المجتمع العراقي والمنطقة، فيتهم أبناء جلدته بأنه إستسلم ولم يغتنم فرصة الحكم لإنتمائه المذهبي..! كان يعطي الحلول والمبادرات لحل ازمة العراق، وحتى على مستوى الحلول الناجعة والتي لا تقبل الخيارات الأخرى، فقيل فيه بأنه يكرس ضائقة البلد لصالحه..! كان يعمل وهو بعيد عن ضجيج أضواء وأصوات كاميرات الاعلام..! ولا يهتم بإحتساب الأنجاز له أم لغيره، فقيل عنه بأنه بمنأى عن حقوق شعبه…!

لا يسعني إن أدون ما قدمه ذاك الرجل، من خلف الكواليس التي يتبجح أمامها اليوم غيره، له الفضل الأول و الأخير، بتقديم حكومة إنتقالية وجمعية وطنية لتدير شؤون العراق في أصعب الظروف، له الفضل في العمل على كتابة الدستور وإقراره، وضمان وجود انتخابات تشترك بها جميع الطوائف والقوميات، في ظل العراق الجديد، له الفضل الأكبر في رسم سياسة البلد مع الدول الاقليمية والعالمية، خاصة ما رافق قضية إخراج العراق من طائلة البند السابع، وما توصل اليه في إتفاقية باخراج الإحتلال الأمريكي من العراق، له الفضل في صناعة تحالف وطني، تستظل به القوى الشيعية، باعتبارها الاغلبية التي لابد ان تدير حكم العراق، فضلا عن كل ذلك كانت له جملة من المبادرات المجتمعية، والتي تكفلت بالأيتام ومعيشتهم والشباب وتزويجهم، وكل شرائح المجتمع الاخرى.

ختاماً؛ أقول إن ما يحزن الشجرة كثيراً، بأنها تقطع بفأس يصنع مقبضه من لحائها..! فالمجتمع العراقي وخلال فتنة السياسة المقيته بعد عام 2003 م، حاول جاهداً والى اليوم بأن يقطع شجرة آل الحكيم …! بالرغم من إن من صنع ذلك المجتمع وأخرجه من بطش “صدام”والبعث وظلمه هم تلك العائلة المجاهدة..! وما السيد “عبد العزيز الحكيم” إلا أحد تلك الزعامات والنتاجات المتوارثة من مدرسة آل الحكيم، ولكنها وللأسف وجدت غالبية المجتمع العراقي، لا يختلف عن الدجاج الداجن الذي سُجن الهدد معه..! وبعد حياة من الورع والدين والجهاد والهجرة بين البلدان، رحل السيد عبد العزيز الحكيم الى ربه صابرا محتسبا، في الخامس من شهر رمضان، لعام 2009 ليترك من وراءه فكرً سياسي، لازال يبحث عن متنفس له في مجتمع مثقف ومدرك ولكن دون جدوى.