مقالة كتبت باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).
عندما نتحدث عن أدلة النبوة، وكل ما يرتبط بها، من وحي، وتبليغ، وأحكام لشريعة إلهية، أو من وجود رسل، وأديان، ووحي، مُدوَّن بعضه في كتب مقدسة، فلا بد من تقسيم البحث ابتداءً إلى النبوة العامة، والنبوة الخاصة، وأي منهما تثبت أو يُدَّعى ثبوتها بالأخرى، الخاصة بالعامة، أم العامة بالخاصة، أو بتعبير آخر، بين النبوة كمفهوم عام، والنبوة كمصداق خاص [أو مصاديق]، بما يعني بالنسبة للمسلمين نبوة محمد، وعلماء الكلام يوردون الأدلة العقلية والنقلية، على كل من النبوتين.
عندما نتناول هذه القضية ونفحص أدلة علماء اللاهوت أو علماء العقائد (Theology)، لا نجد دليلا قطعيا على صدق النبوة، بل قد نجد من الأدلة ما يجعل النبوة أمرا ممكنا من الناحية العقلية، وقد تستطيع بعض طرق الاستدلال أن تصل بالمتلقي إلى ما يجعله يرجح صدقها على نحو المفهوم، وقبل فحص المصداق، دون إمكان بلوغ مرتبة القطع واليقين. بل الأدلة القطعية هي وهم يتوهمه أصحاب هذه أو تلك العقيدة عبر يقين مسبق، مما يجعل صاحبه يقتنع بالأدلة التي تؤيد عقيدته المتخذ قرار الإيمان القطعي بها بموقف مسبق، وبالتالي فإن لاهوتيي تلك العقيدة يوردون حصرا الأدلة القوية، أو التي تبدو قوية للمتلقي غير المتوفر على مؤهلات الإلمام بكل طرق الاستدلال العقلي، والمشحون بقرار التصديق المسبق، ويسكتون عن موارد الضعف والثغرات في أدلتهم، ثم يوردون بالعكس الضعيف من استدلال خصومهم أو مغايريهم، أو حتى ما يبدو قويا، ولكن ما يملكون القدرة على الرد عليه بأدلة تكون أكثر متانة، أو تبدو كذلك، أو يدعّون ذلك، بما يجعل المتلقي – خاصة غير القادر على التعمق في البحوث العقلية – يصدّق بمتانة أدلة الرد على الخصوم أو المغايرين. ولا نجد لاهوتيا يعرض هو عقيدة دينه الذي يدين به بطريقة يكتشف عبرها نقاط الضعف والثغرات المشتملة عليها الأدلة المسوقة لصدق تلك العقيدة. أقول كل هذا عبر تجربتي التدريسية، لاسيما في تدريس العقائد؛ تلك التجربة التي طالما استوقفتني خلالها الثغرات الاستدلالية، والخلط بين الممكن والواجب العقليين، والخلط بين المنهج العقلي والمنهج التبريري، المتلبس بشكل المنهج العقلي، لا بجوهره الحقيقي. ولطالما رفضت المنهج التبريري هذا الذي تعتمده الكتب التدريسية المعتمدة، مصرا على مواصلة المنهج العقلي، وتأصيل مرجعية العقل، بدلا من مرجعية النص الديني، مقدما العقل على النص المقدس.
إن أصل فكرة أن يختار الله من أفراد المجتمع البشري أشخاصا، فيوحي إليهم برسالته إلى الإنسانية، ويكلفهم بمهمة تبليغ ما يوحى إليهم من رسالة، تتناول تصحيح العقائد، وتشريع الأحكام، ونقد السائد من أعراف وتقاليد خاطئة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، من حيث المبدأ تمثل إخبارا بدعوى قابلة للتصديق وللتكذيب، كونها من ممكنات العقل، وليست من ممتنعاته، ليمتنع التصديق، وبالتالي يجب التكذيب بها، ولا هي من واجباته، ليمتنع التكذيب، وبالتالي يجب التصديق بها.
ولكن يمكن القول ابتداءً، ولكونها قضية استثنائية، إن المطالَب بالأدلة هو القائل بصدقها، وليس القائل بكذبها. وكونها أصبحت ظاهرة مألوفة مرت عليها ثلاثة آلاف سنة، وصدّق بها أكثر الناس عبر الأجيال المتتالية، بما في ذلك المثقفون والعقلاء، لا يحولّها من قضية استثنائية إلى قضية عادية، أو بتعبير آخر من استثناء إلى قاعدة، بحيث يُستنكَر على غير المصدقين بها، أو المصدقين غير الموقنين، المطالبة بالدليل، لأنها ليست كالحقائق العلمية، مثلا كحقيقة دوران الأرض حول الشمس، التي لم تكن من قبل معروفة لدى الإنسان، فأصبحت من البديهيات، حيث إن الأدلة العلمية على ما هو متحقق، لا على ما هو مفترض التحقق، أدلة قطعية، إلا إذا كان غير المتحقق ممكنا يقينا عبر خضوعه لقانون طبيعي، تيقن العلم من صحته وشمول سريانه. بينما قضايا الدين، وعالم ما وراء الطبيعة، تبقى مفتقرة إلى الدليل.