23 ديسمبر، 2024 4:43 ص

النبط في كتب المؤرخين القدامى

النبط في كتب المؤرخين القدامى

في البدء يجب التمييز بين النبط الذين سكنوا العراق , وبين الأنباط الذين سكنوا الأردن وأقاموا حضارة الأنباط في البتراء؛ وسوف نتطرق لبيان الفرق فيما بينهما في يأتي من المباحث والمطالب .

ذكر المسعودي في كتابه: ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) النبط فقال : (( ذكر أهل العناية بأخبار ملوك العالم أن اول الملوك ملوك السريانيين بعد الطوفان , وقد تنوزع فيهم وفي النبط : فمن الناس من رأى أن السريانيين هم النبط ومنهم من رأى أنهم إخوة لود ماش – (( وفي الهامش : 1-في ب (( لولد ماس )) )) – بن نبيط , ومنهم من رأى غير ذلك .

وكان أول من ملك منهم رجل يقال له (( شوسان )) وكان أول من وضع التاج على رأسه في ( تاريخ السريانيين والنبط ) , وانقادت له ملوك الأرض , …))

وقال في موضع آخر من كتابه مروج الذهب : (( وكان أهل نينوى مما سمينا نبيطا وسريانيين , والجنس واحد , واللغة واحدة , وإنما بان النبط عنهم بأحرف يسيرة في لغتهم , والمقالة واحدة .))

وقد افرد عنوانا في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر تحت مسمى : (( ذكر ملوك بابل , وهم ملوك النبط وغيرهم ((المعروفين بالكلدانيين – وجاء في الهامش : 1- زيادة في أ وحدها – )).

وعندما بسط القول في ذكر سير هؤلاء الملوك وان الفرس اخذوا الملك عنهم كما اخذت الروم الملك من اليونانيين , ابتدأ بذكر اول ملوكهم (( النمرود الجبار )) وذكر انجازاته ؛ ثم ذكر بقية ملوك بابل بالتسلسل … ؛ وختم قوله بنهاية هذا العنوان (( ذكر ملوك بابل , وهم ملوك النبط وغيرهم ( المعروفين بالكلدانيين ) بما يلي : (( وقد ذهبت طائفة من الناس الى أن هؤلاء الملوك كانوا من النبط وغيرهم من الأمم , وانه كان يرأس بعضهم غيره من ملوك الفرس ممن كان مقيما ببلخ , والأشهر ما قدمناه , وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب لمعا من أخبار النبط وأنسابهم .)) .

وعندما تكلم المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) عن ملوك الطوائف الذين حكموا بعد انتصار الاسكندر على الفرس واحتلاله للعراق ؛ أدرج النبط من ضمن ملوك الطوائف بالإضافة إلى الفرس والعرب حسب رأي بعض الإخباريين , فقد تغلب كل رئيس منهم على الصقع الذي هو فيه , وذلك بتخطيط من الاسكندر كي يشتت كلمتهم ويفرق جمعهم ويحزبهم أحزابا متناحرة ؛ لينعدم نظام الملك والدولة وتختل الأوضاع … ؛ وقد ذكر المسعودي أيضا قوم اسماهم ( الاردوان ) وقال : هم ملوك النبيط , وكانوا من ملوك الطوائف , وكانوا بأرض العراق … (1 )

وقد أرجع بعض علماء الأنساب كما ذكر المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) النبط والفرس إلى نفس السلالة اذ قال : (( تنازع الناس في الفرس وأنسابهم : فمنهم من رأى إن فارس بن ياسور ابن سام ابن نوح , وكذلك النبط من ولد نبيط بن ياسور بن سام بن نوح , وهذا قول هشام بن محمد فيما حكاه عن ابيه وغيره من علماء العرب ؛ ففارس ونبيط إخوان ( وهما ) ابنا ياسور … ))

وذكر المسعودي في موضع آخر من كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) عندما ذكر بني ارم بن سام بن نوح ؛ إذ قال : إن نبيط بن ارم : (( … فسائر النبط وملوكها ترجع في أنسابها إلى نبيط ابن ماش .)) .

وفيما قاله أيضا : (( … وحل نبيط ابن ماش بن ارم بن سام بن نوح بابل , فغلبوا على العراق , وهم النبط , ومنهم ملوك بابل الذين قدمنا ذكرهم , وأنهم الملوك الذين عمروا الأرض , ومهدوا البلاد , وكانوا اشرف ملوك الأرض , فأدال منهم الدهر , وسلبهم الملك والعز , فصاروا على ما هم عليه من الذل في هذا الوقت بالعراق وغيرها .)) .

وقد ذكر المسعودي أيضا ماش بن ارم في موضع آخر من كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) فقال : (( و ولد سام بن نوح : ماش بن ارم بن سام ,ونزل بابل ( على شاطئ الفرات ) فولد نمرود بن ماش , وهو الذي بنى الصرح ببابل ,وجسر جسرا ببابل على شاطئ الفرات , وملك خمسمائة سنة , وهو ملك النبط , وفي زمانه فرق الله الألسن : فجعل في ولد سام تسعة عشر لسانا , وفي ولد حام سبعة عشر لسانا , وفي يافث ستة وثلاثين لسانا , وتشعبت بعد ذلك اللغات وتفرعت الألسن , وسنذكر هذا في موضعه … , وما قالوا في ذلك من الأشعار عند تفرقهم في البلاد بأرض بابل … ))

وعندما تكلم المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) عن ملوك الأرض قال : (( فلنذكر الآن ملوك السريانيين , وهم أول من يعد في كتب الزيجات والنجوم والتواريخ القديمة من ملوك العالم , ثم ملوك الموصل ونينوى , ثم ملوك بابل وهم الذين عمروا الأرض , وشقوا الأنهار , وغرسوا الأشجار , وطعموا الثمار , ومهدوا الوعر , وسهلوا الطرق , …. ))

وقد عرف المسعودي النبط في كتابه ( التنبيه والإشراف ) بأنهم : (( السريان الذين يسكنون العراق والجزيرة والشام )) . (2)

و اليعقوبي في تاريخه لم يأتي على ذكر اصطلاح (( النبط )) وإنما ذكر ملوك السريانيين وملوك الموصل ونينوى وملوك بابل وملوك الحيرة ؛ ولم يستعمل هذا اللفظ للدلالة على سكان العراق القدامى إلا انه قد ذكر شخص باسم حسان النبطي في كتابه / الجزء الثاني / صفحة : 310 و323.

وقد ذكر اليعقوبي السريان في كتابه فقال : (( وكان أول الملوك بعد الطوفان ملوك السريانيين … ))

ثم ذكر ملوك الموصل ونينوى , ثم ذكر ملوك بابل فقال : (( فكان أول ملوك بابل , بعد السريانيين , نمرود الجبار … )) ثم ختم قوله بهذه المقالة : (( هؤلاء الملوك ملوك الدنيا , وهم الذين شيدوا البنيان , واتخذوا المدن , وعملوا الحصون , وشرفوا القصور , وحفروا الأنهار , وغرسوا الأشجار , واستنبطوا المياه , وأثاروا الارضين , واستخرجوا المعادن , وضربوا الدنانير , وصاغوا وكللوا التيجان , وطبعوا السيوف , واتخذوا السلاح , وعملوا آلات الحديد ,وصنعوا النحاس والرصاص , واتخذوا المكاييل والموازين , واختطوا البلدان , وقلموا الأقاليم , واسروا الأعداء , واستعبدوا الاسراء , واتخذوا السجون , و وصفوا الأزمنة , وسموا الشهور , وتكلموا في الأفلاك والبروج والكواكب , وحسبوا , وقضوا بما يدل عليه الاجتماع والافتراق , والتثليث , والتربيع , والمجاسدات . ))

وقد ذكر الطبري في كتابه ( الرسل والملوك /الجزء الرابع ) النبط اذ قال : (( قال : إنما سموا ملوك الطوائف ؛ لان كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض , إنما هي قصور وأبيات , وحولها خندق وعدوة قريب منه , له من الأرض مثل ذلك ونحوه , يغير احدهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة .

قال : فتطلعت أنفس من كان في البحرين من العرب إلى ريف العراق , وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه , واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف , فاجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق , و وطن جماعة ممن كان معهم على ذلك ؛ فكان أول من طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس , فوجدوا الارمانيين – وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل – يقاتلون الاردوانيين , وهم ملوك الطوائف , وهم فيما بين نفر – وهي قرية من سواد العراق إلى الابلة وأطراف البادية – فلم تدن لهم ,فدفعوهم عن بلادهم .

قال : وكان يقال لعاد ارم , فلما هلكت قيل لثمود ارم , ثم سموا الارمانيين ؛ وهم بقايا ارم , وهم نبط السواد …. ))

نكتفي بهذا القدر من ذكر النبط في كتب المؤرخين ؛ ونقول : من المعلوم إن ميراث العرب الثقافي هو ميراث شفاهي غير مكتوب بل منعت الكتابة لمدة قرن من الزمن من قبل السلطة الحاكمة المتمثلة آنذاك بالخليفة عمر بن الخطاب واستمر المنع ساريا إلى عهد الحاكم الأموي عمر بن عبد العزيز , فالعرب يعتمدون على ما في جعبتهم من أخبار و روايات وأساطير , وما احتفظت به ذاكرتهم من أحاديث وقصص ومعتقدات, وهذا التراث – غير المدون – حاله حال أي تراث شفاهي فيه الصحيح وفيه الكثير الكثير من الادعاءات الخيالية والأحداث المفتعلة والروايات المضخمة والمبالغ فيها , ناهيك عن التكرار المتغير في نقل المعلومات التي تخص الحدث الواحد في الكتاب الواحد لتصل إلى حد التناقض أحيانا !!

فبعض هذه الكتب التاريخية مليء بالخرافات والمتناقضات ؛ ومثل هذه الكتب لا تصلح لان تكون مستندا علميا تاريخيا صحيحا ممكن الاعتماد عليه , إلا انه في كل الأحوال تعبر عن الحالة الثقافية التي يعيشها الكتاب والمؤرخين لان النص المكتوب لا يتعدى سياقه التاريخ ؛ إذ هو كاشف عنه وعن ما يختلج في صدر المؤرخ والكاتب من معتقدات وأراء ومع ذلك قد قيل أن في الأساطير نصف الحقيقة , وهذا لا يعني أن كل المؤرخين كذبة أو مؤدلجين بل قد ينقل احدهم بحسن نية ما قاله الآخرون من دون تحقيق وتدقيق – وكفى بك كذبا أن تحدث بكل ما تسمع – ؛ ومنهم خلاف ذلك من لا يتحرى الا الحقيقة ولا ينقل الا الصدق ولا يعتمد الا على الثقة وهؤلاء قلة قليلة جدا في تلك العصور التي لم تعرف الموضوعية والحياد العلمي كما هو الان .

نعم بعض الكتب التاريخية أو جزء كبير منها ؛ لها قيمة أدبية وتراثية وثقافية ودينية ولكنها لا يمكن أبدا أن تصلح كسند تاريخي يكشف عن الحقيقة والواقع لان الميراث الشفاهي ميراث بدائي ساذج -من قبيل قال الراوي – .

 

ناهيك عن تأثر هؤلاء بما جاء في التوراة وما نقله كعب الأحبار وغيره من إسرائيليات في التراث العربي الإسلامي , وهذا يفسر ما جاء في هذه الكتب التاريخية من المعتقدات اليهودية والأساطير الاسرائيلية ؛ وبالتالي ألقى بظلاله على الرؤية العربية الإسلامية للتاريخ و رموزه وأحداثه .

وقد أدرك الباحثون هذه التعقيدات والإشكالات في كتب التاريخ الإسلامي , وقد قال احدهما معبرا عن ذلك :

نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا …….. فكيف بأمر الغابرين نصدق

النتائج المترتبة على أقوال المؤرخين السابقة :

فلنرجع إلى الآراء السالفة لنستخلص منها زبدة القول :

1- الرأي الأول يذهب إلى إن النبط هم السريانيون ؛ وهم سكان العراق والجزيرة – الجزيرة الفراتية – والشام .

2- الرأي الثاني يذهب إلى إن النبط ليسوا سريانيين ؛ وإنما السريانيين أخوة لولد ماس – قد يكون من خطا النساخ – أو ماش بن نبيط .

3- الرأي الثالث نفى الرأيين السابقين وذهب إلى غير ذلك إلا إن المسعودي لم يبني لنا ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي , وعندما تكلم المسعودي عن شوسان فرق بين السريانيين والنبط ؛ وقد جمع بينهما وعدهما جنسا واحدا عندما تكلم عن ملوك نينوى إلا انه قال أن النبط يختلفون اختلافا طفيفا عن السريان وعد أهل نينوى من السريان والنبط .

4- ذهب المسعودي في الرأي الرابع إلى إن النبط هم كلدانيون في إحدى نسخ كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) ؛ وقال إن ملوك بابل هم ملوك النبط وغيرهم من الأمم أي إن ملوك بابل ليسوا حكاما على النبط فحسب بل على غيرهم من الأمم أيضا , إلا انه عد النبط من ضمن ملوك الطوائف ثم ذكر رأيا مخالفا فعد الاردوان هم ملوك النبط وكانوا من ضمن ملوك الطوائف وليس النبط .

5- الرأي الخامس يذهب إلى إن النبط والفرس يرجعون إلى نفس السلالة إذ يرجع كلا من فارس ونبيط إلى ياسور بن سام بن نوح .

 

6- الرأي السادس ذهب فيه المسعودي إلى إن النبط من سلالة نبيط بن ماش بن ارم بن سام بن نوح فهم يرجعون لبني ارم ؛ وقد جاءوا بابل وغلبوا عليها ومنهم ملوك بابل أي إن ملوك بابل نبط حسب هذا الرأي .

7- اليعقوبي في تاريخه لم يذكر لفظ النبط قط ؛ هل يدل هذا على انه يرفض استعمال هذا اللفظ بحق سكان العراق القدامى الذين ملكوا البلدان ولبسوا التيجان … الخ , أم انه يراه غير مناسب وليس دقيقا عندما يستعمل بوصف أقوام العراق القدامى ؛ علما ان العراقيين بكل طوائفهم وأعراقهم لم يطلقوا على أنفسهم اسم النبط بل أطلقه العرب عليهم ؛ إلا انه ذكر شخصية في كتابه تدعى : (( حسان النبطي )) ليس إلا , قطعا هنا لا يستطيع أن يغير من لقب شخص ما عرف به , فهل نستنج من هذه القرينة ومن غيرها من القرائن على إن اليعقوبي عراقي الأصل ومن سكان العراق القدامى ؟؟.

نعم قد ذكر اليعقوبي في تاريخه السريان وملوك بابل ونينوى كما مر عليكم إلا انه لم يصرح بان هؤلاء هم النبط فتأمل ؟

8 – الرأي الثامن أورده الطبري في كتابه ( تاريخ الرسل والملوك )؛ إذ ذهب إلى إن الارمانيين هم بقايا بني ارم وهم نبط السواد في نفس الوقت , وعبر عنهم بالأعاجم كما مر عليكم , وقد تواجدوا الاردوانيين أيضا في العراق وهم ملوك الطوائف , نتعرف من خلال هذا الرأي إلى إن الطبري يذهب إلى أن ملوك الطوائف ليس فيهم فارسي أو عربي بل هم الاردوانيين فقط لا غير إلا انه لم يبني لنا من هم ؟ ؛ نعم المسعودي قد عدهم من ملوك الطوائف وقالوا عنهم أنهم ملوك النبط أيضا كما مر عليكم .

لتبيان الآراء السابقة بصورة جلية لا تقبل اللبس وتوضيح الموضوع بطريقة تراتبية متسلسلة ؛ ينبغي علينا توضيح المصطلحات التي مرت علينا آنفا – تعريفها بشكل موجز ومقتضب تاركا الآراء الخلافية والتفاصيل – من قبيل : السريان – الكلدان – الارمانيين أو بني ارم أو الآراميين ؛ كي نخرج برؤية واضحة ونتيجة منطقية .

الآراميين :

طبقا للتوراة , فان الآراميين هم أبناء آرام – أو ارم – بن سام , وقد دعت إبراهيم الخليل بالآرامي , عندما غادر حران , باتجاه بلاد الشام ( ارض كنعان ) , كما دعت حفيده يعقوب بن إسحاق , بالآرامي التائه , عندما سكن (( فدان آرام ) وآثارها في تل مرتفع يقع إلى غرب مدينة حران ولا زال يدعى ( تل الفدان ) . وقيل : إن الآراميين شعب سامي هاجروا تدريجيا قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد من المناطق الشمالية للجزيرة العربية , وقد دلت الرقم الطينية ان كلمة ( ارامو ) البابلية تعني سكان المرتفعات – وهذا الرأي يناقض الرأي السابق الذي يذهب إلى أنهم هاجروا من شمال الجزيرة – ؛ كان الآراميون دائما في صراع مع ملوك الأشوريين , وكان الآراميون يعيشون على شكل قبائل قوية ؛ وأصبحت اللغة الآرامية بعد سقوط الدولة البابلية والدولة الأشورية – انتهت تقريبا اللغتين البابلية والأشورية من التداول في بلاد الرافدين والأقطار المحيطة والتي كانت في دائرة تأثير ونفوذ هاتين الدولتين – ؛ لغة عالمية في جميع أرجاء المنطقة , وانتشرت اللغة الآرامية في آسيا الصغرى وسورية وبلاد ما بين النهرين , حيث أصبح الكلدانيون والأشوريون , وأبناء فلسطين عمليا آراميي اللغة .

السريان :

وبعد انتشار الديانة المسيحية في هذه الأصقاع ؛ اقترن اسم الكلدان والآراميين بالوثنية , وعندها اتخذ المسيحيون الآراميون اللهجة السريانية المشتقة من الآرامية , فصاروا يعرفون باسم السريان ؛ لان الاسم الآرامي القديم صار غير مستحب .

و السريان يعتبرون اللغة السريانية لغة كنسية مقدسة ويتحدثون بلهجات مختلفة بقربها وبعدها عن السريانية الفصحى,. وهذا الانتماء إلى الثقافة السريانية يخلق لدى الكثير من النخب والجماعات شعورًا بالانتماء المشترك لتاريخ بلاد النهرين وسوريا، أي الانتماء لعموم بلاد المشرق وحضاراته ( السومرية – البابلية -الآشورية_ والكنعانية والآرامية ) .

خلاصة القول إن إطلاق تسمية السريان تبدو الأكثر معقولية رغم نواقصها.

إن هؤلاء السريان بجميع تنوعات مسمياتهم يشكلون جزءًا متميزًا من الشعبين العراقي والسوري – حاليا- ، بل يصح القول إن السريان هم أسلاف شعوب منطقة المشرق لاسيما العراق – او لعلهم اسلاف البعض او الاغلب من العراقيين – , مثلما الأقباط هم أسلاف الشعب المصري، والبربر هم أسلاف شعوب المغرب ، والنوبيون هم أسلاف الشعب السوداني .

و تسمية اللغة السريانية يعتقد إنها اشتقت من آشوريا)- نسبة إلى الدولة الآشورية التي كانت سائدة سابقًا في شمال النهرين – ( وعندما أتى الإغريق أطلقوا على هذه اللغة تسمية سريانيا وكذلك أطلقوا على جميع منطقة المشرق تسمية سوريا .

إن هذه اللغة السريانية قد حلت محل الآرامية وصارت اللغة الفصحى لجميع الكنائس المسيحية والمانوية البابلية في جميع منطقة المشرق من خليج البصرة حتى سيناء.

بما إن هذه اللغة صارت لغة الكتب المقدسة والكنائس المسيحية في عموم المشرق فأنها راحت تنتشر مع انتشار المبشرين المسيحيين العراقيين والشاميين في أنحاء العالم ؛ فقد أصبحت لغة القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية واستقرت في الحيرة – أي الحارة – قرب الكوفة وامتزجت بالسكان الأصليين الناطقين بالآرامية، كذلك في الحضر وبصرى وتدمر، ثم إنها كانت لغة كنيسة نجران في جنوب الجزيرة العربية، وكذلك انتشرت في منطقة الخليج المعروفة ب البحرين وقطرايا- أي قطر الحالية و ,قيل انها منطقة في جنوب العراق – وتمكنت هذه اللغة أن تصبح لغة الثقافة الأولى في الإمبراطورية الإيرانية الساسانية ومنحت أبجديتها إلى اللغة البهلوية الإيرانية .

الكلدان :

أن الكتابات الرافدينية القديمة أطلقت على كلدان العصر البابلي القديم تسمية كلدايي ومفردها كلدايا وموطنهم كلدو ولغتهم الأم كلديثا وإنتمائهم لهذه الأرض

واللغة: كلديوثا وأيضاً و كلدنيوثا : وهيّ النحت الكتابي – Biblical – للمفردة ، وبديهي أن الحوليات والسجلات المسمارية / المقطعية القديمة كانت تشير للكلدان بصيغة الجمع كلدي – Kaldee- ولموطنهم مات كلدي – Mat Kaldee – ، وهيّ ذات الصيغة التي أستخدمها العهد القديم وفق صيغة الجمع العبرية حيث أطلق على الكلديين تسمية كشديم -Ka(u)shdim – , وكسديم – Ka(u)sdim – والتي من معانيها الجبابرة أو المنتصرون ، أما أصل كلمة كشديم أو كوشديم العبرية فمشتقة من كوش – K(C)ush – والد نمرود وهو بحسب العهد القديم : ابتدأً أن يكون جباراً على الأرض ، وأيضاً : الذي كان جباراً قانصاً أمام الرب ، وأيضاً : جبار صيد امام الرب ، ويحدد الكتاب المقدس إبتداء ملك نمرود بكونه : وكان إبتداء ملكه بابل – Babylon – وآراك / أوروك وآكاد / أكد وكلها كانت في أرض شنعار كما جاء في سفر التكوين : وأحياناً بصيغة كلنة – موقع في أرض شنعار / مستوطن الكلدان التاريخي- .. أنظر تكوين ١٠ : ٩- ١٠ – ١١ . . وبسبب من عراقة الكلدان في وسط وجنوب الرافدين نجد أن الطبيب والمؤرخ الكلاسيكي كتيسياس – Ctesias – يقول : أن الكلديين / الكلدان هم قدامى البابليين بمعنى العموريين ،ومع إن الكتابات القديمة كانت تربط ما بين الكلديين والعموريين ، إلا أن الحوليات القديمة وبخاصة تلك التي جاءتنا من إقليم آشور كانت تفصل بين الكلديين والآراميين .

والحقيقة التي لا تخفى على أحد اليوم هو تحدث الوسط جنوبيين بلهجات مختلفة لكن لغتهم الأم كما ثبت لنا هي اللغة الكلدية الأم) أي اللغة الرافدينية القديمة التي كانت سائدة في وسط وجنوب الرافدين منذ العهد المجهول أي العهد البطولي – Heroic Age – بمعنى فترة الانتقال من العبيد إلى جمدة نصر.

وتؤكد الباحثة أوتس بأن الكلدان كانوا حضراً ومن سكان المدن والأهوار الجنوبية الأثرياء ولم يكونوا من البدو الفقراء ، وبسبب هذا التمايز الاجتماعي أو الطبقي فرقهم الآشوريون عن الآراميين .

أما ليو أوبنهايم فيقول عنهم في كتابه الموسوم : بلاد ما بين النهرين القديمة : بأنهم- أي الكلدان – كانوا آخر سلالة قومية .

وفي مكان آخر يختصر أوبنهايم الموقف الكلداني منذ فترة السيطرة الآشورية المتقطعة على الإقليم البابلي ٧٢٩ – ٦٢٦ ق.م والتي اتخذت في أوقات كثيرة طابعاً شكلياً كما أستقلت بابل في بعض منها استقلالا كلياً وناجزاً ، بعبارته الشهيرة : كان الكلدان قوميين متطرفين ومناوئين على الدوام للدولة الآشورية .

فالكلدان و الآراميون أو الارمانيين – كما يسميهم المؤرخون الإسلاميون – كانوا يسكنون العراق ولاسيما جنوبه والوسط .

علما إن البعض يذهب إلى أن البابليين والأشوريين مجرد تسميتان لا تدلان وفق المدونات التاريخية والإثباتات العلمية على عرقين بمعنى قوميتين وإنما تدلان على مجاميع بشرية لسكان عاصمتين تعتبران من أشهر عواصم العراق القديم، ومن أسم هاتين العاصمتين اشتقت تسميتا الدولة البابلية والدولة الآشورية ومنهما أيضاً جاء التعبيران شعب بابل وشعب آشور واللغة البابلية والآشورية .

الخلاصة :

من خلال ما تقدم , نستطيع القول بان النبط هم سكان العراق القدامى جدا , وان مفهوم أو دلالة مصطلح النبط دلالة متحركة متغيرة تختلف من عصر إلى آخر ؛ إذ كلما دخل أفراد أو دخلت مجموعات أو شعوب أو قبائل إلى ارض العراق – أي إلى بابل أو أشور – ازدادت دائرة النبط واتسعت لتشمل هؤلاء المهاجرين والغازين والوافدين الجدد , أي إن صفة المواطنة العراقية أو الصفة النبطية توفرت فيهم بمجرد اندماجهم في المجتمع العراقي القديم .

ولكن هنالك أقوام سكنت العراق قبل غيرها , فلو راجعنا التاريخ بدقة , لوجدنا إن الفراتيين الأوائل , أقدم من السومريين, والسومريين أقدم من الكلدان أو هم معاصرين لهم , والكلدان أقدم من الآراميين وهكذا … .

وأيضا نكتشف إن هذه القوميات البشرية وأخلاط الناس قد ذابوا وانصهروا في بوتقة الحضارة العراقية المتمثلة في الإمبراطورية البابلية والأشورية بالرغم من اختلاف أعراقهم وتباين صفاتهم , وانتهلوا من معين الثقافة العراقية وتكلموا بلغة واحدة تقريبا – مع اختلاف بسيط في بعض اللهجات المحلية – ؛ لذلك سموا بالأعاجم .

وبالرغم من وجود الخلافات الحادة فيما بينهم أحيانا , إلا أنهم جميعا يبغضون الغازي المحتل ويقاوموه, ويتمسكون بالعراق ولا يفرطون به , ويتكيفون مع الظروف مهما كانت قاسية في سبيل البقاء فيه والعيش تحت ظلاله , ولكنهم قد يتأثرون سلبا به أحيانا .

………………………………………………………………

· بحث مستل من كتابنا : قصة النبط : سكان بلاد الرافدين القدامى / الفصل الأول / المبحث الأول / المطلب الثاني .