الناقد سامر جلاب صانع المرايا في دروب الشعر والنقد

الناقد سامر جلاب صانع المرايا في دروب الشعر والنقد

في مدن الظل، حيث لا تضيء الثقافة إلا لمامًا، تنهض بعض القامات بهدوء العارف، وتكتب حضورها عبر المعرفة الصلبة، والمثابرة النبيلة، والمشروع النقدي الواضح. من بين هذه القامات يطلّ الناقد الدكتور سامر جلاب، كمن يخطّ ملامحه في مرآة القصيدة، ويعيد ترتيب الضوء على صفحة الشعر العربي الحديث، ممارسًا فعل الكشف، لا الزينة، في قراءاته وتحليلاته.

وُلد سامر عبد الكاظم جلاب الجوذري في قضاء الهاشمية بمحافظة بابل في 14 حزيران 1983، وعلى أديم تلك الأرض الزراعية الغافية، تفتّحت موهبته الأولى. نهل من مدارسها مراحل التعليم حتى تخرج في كلية الآداب – جامعة القادسية سنة 2007، حاملاً بكالوريوس اللغة العربية، ولم يكن ذلك إلا بدء الطريق نحو تفرّغٍ علمي عميق للغة والنقد، تكلل بحصوله على الماجستير سنة 2010، ثم الدكتوراه في الدراسات النقدية سنة 2016 من كلية التربية للعلوم الإنسانية – جامعة بابل، بأطروحته اللافتة: “الصورة عند الجيلين الشعريين الستيني والسبعيني في العراق: عقدي التشكّل“.

هذا الانشغال بالصورة الشعرية لم يكن اشتغالاً أكاديميًا فحسب، بل تجلّى في مشروعه النقدي الذي تنقّل فيه بين مفاهيم نقد الشعر، ونقد الرواية، ونقد النقد، والنقد الثقافي. إنّ أسئلته لم تكن تقليدية، بل من النوع الذي يستفزّ النص، ويجسّ نبضه، ويحاكمه بمعايير الجمال والمعنى، ثم يعيده إلى القارئ عبر لغة نقدية رشيقة لا تخلو من اللمسة الإبداعية.

لم يكن مجرد أستاذ جامعي في قسم اللغة العربية بكلية التربية الأساسية – جامعة بابل، بل كان أحد صنّاع الفضاء العلمي والثقافي فيها. درّس النقد الأدبي الحديث، وساهم في عضوية اللجان العلمية ولجان الدراسات العليا، وأشرف على أطاريح الماجستير والدكتوراه، كما شارك في خدمات تحكيم المجلات العلمية، والتقويم اللغوي، وإنجاز الترقيات العلمية، متكئًا على صرامة علمية وذائقة نقدية حادة.

وقد صدرت له كتب مهمة منها: أسلمة الأدب: مقاربة منهجية في منجز محمود البستاني (2015)، أجراس القارئ على جدار بوح الشاعر: مقاربة نقدية (2020)،  فاعلية الصورة بين شعر الجيلين الستيني والسبعيني في العراق.

وهذه المؤلفات لم تمرّ مرورًا عابرًا، بل نالت اهتمام النقاد، حتى حاز على المرتبة الأولى في العراق عن الكتب المؤلفة في مجال النقد الأدبي لعام 2021–2022، بحسب تصنيف وزارة الثقافة العراقية.

وقد أشاد به زملاؤه بوصفه “ناقدًا صبورًا على النص، لا يستعجل التأويل، ولا ينخدع ببريق اللغة، بل يغوص في البنى والدلالات ليرى ما لا يُرى”، فيما رأى آخرون فيه “ناقدًا مثقفًا يتعامل مع النص بوصفه بنية ثقافية، لا مجرد منجز لغوي”. ولا يندر أن يقال عنه إنه “من قلائل النقاد الذين مزجوا بين الحسّ الأدبي والصرامة الأكاديمية، فخرج نقده حيًا نابضًا، لا جافًا ولا تقنيًا فحسب“.

وفي هذا السياق، كتب عنه الناقد د. عبد العظيم السلطاني مشيرًا إلى نبل وفائه وتواضعه العلمي، قائلًا:” الدكتور سامر الجلاب نشر كتابه الفائز بجائزة وزارة الثقافة العراقية، فصدره بإهداء لأستاذه الذي أشرف عليه في مرحلة الدكتوراه، وفاء منه… شكرا عزيزي دكتور سامر، فأنت عبرت ضمنا عن اعتزازك بأسرتك التي غرست في نفسك قيم الوفاء والإنصاف والجمال…”.

أما الناقدة ناهضة ستار، فقد سلّطت الضوء على جهده النقدي في استجلاء اشتباك الدين بالفن، وذلك من خلال قراءته لمنجز محمود البستاني، مؤكدة على تميّز مشروعه النقدي بقولها:” توجه هذه الدراسة العناية إلى مشروع نقدي عريض وتجربة فيها من التميز والاتساع ما به حاجة إلى ديمومة نظر وتفعيل حوار… قراءة متفحصة ومقاربة منهجية قاربت ملامح الوعي النقدي وفرضيته البديلة في فك الاشتباك في ثنائية الدين والفن“.

كما وصفه الناقد علي حسن الفواز في إحدى الندوات الثقافية بأنه:” ناقد من طراز خاص، يشتغل في تخوم المعنى، ويستدعي النص لا ليقرأه فقط، بل ليُقلقه…”.

وجاءت أبحاثه المنشورة في المجلات المحكّمة لتؤكّد ذلك النهج النقدي المتماسك، نذكر منها: تمظهرات منطق الانسجام: مقاربة ثقافية في منجز محمود البستاني، ملامح صورة الخطاب النسوي في الشعر العراقي الحديث: عقد السبعينيات أنموذجًا، الوظيفة النصّية للصورة والتصوير عند الجيلين الستيني والسبعيني، تجليات الصمت ومظاهر الاقتصاد اللغوي في القرآن الكريم (بحث مشترك)،إشكالية تأريخ الأدب العربي: أدب فاطمة الزهراء أنموذجًا، عتبات ثقافية على جدار الصورة الشعرية: قراءة في الشعر العراقي الحديث.

إنه من أولئك الذين لا يكتفون بالتنظير عن بعد، بل يباشرون الفعل النقدي يومًا بيوم، محاضرًا ومشرفًا ومستشارًا ومقومًا، وله في ذلك عشرات الشهادات التقديرية وكتب الشكر التي نالها عن جدارة، فضلًا عن عضويته الفاعلة في اتحاد الأدباء والكتّاب – فرع بابل.

لم تكن إشرافاته العلمية عابرة، بل اختار نصوصًا وشعراء جديرين بالتأمل، فكانت رسائل طلابه تدور حول “شعر لميعة عباس عمارة”، و”شعر حسين عبد اللطيف”، و”البنية الدرامية في شعر أحمد الخيّال”، وهي أسماء تدلّ على حسه النقدي ووعيه في انتقاء مواضيع حداثية رصينة.

في زمان صار فيه النقد مهنة من لا مهنة له، يقف الدكتور سامر جلاب بوصفه ضميرًا علميًا لا يساوم، وأستاذًا حقيقيًا لا يزيف، وناقدًا لا يطيل الوقوف عند الزخرف، بل يضع إصبعه على الجرح الجمالي للنص.

هو من أولئك الذين إذا كتبوا، أنصتت القصائد. وإذا حلّلوا، ارتبكت الأحكام الجاهزة. ناقد من جيل جديد، لكنه لا ينسى تراث النقد ولا يغادره، بل يجترح لنفسه مسارًا خاصًا يزاوج بين التراث والحداثة، بين الرؤية الصوفية للنص، والرؤية الفاحصة الناقدة. وفي مسيرته ما يشبه مرآة النص… تصنع الرؤية من خلال التحديق العميق في التفاصيل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات