شاركني صديقي المترجم والأديب أمير دوشي ، هذا الشاخص المبدع الممتلئ طيبة وضوءاً وسومرية وهو يحبو بأحلامه حتى في المناطق الخطرة من أجل شيء يتوهج تحت أجفانه أسمه ( أور وآلهتها وسلالات الطين ) ، شاركني هاجس كتابة قصتي ( الأيطالي والخوذة السومرية ) المنشورة في مجموعتي القصصية ( اليوم الأخير في حياة أور ــ نمو ) والصادرة عام 2006، والقصة تتحدث عن المدينة ( الناصرية ) والأماكن الأثرية المنتشرة في أور واريدو ولكش وتلو ومناطق الاهوار وناحية الفجر وغيرها ، وقد اعتمدت على حكاية من فم صديقي ( أمير ) وهو يتحدث عن الأسى الذي يسكنه حين تستنجد في المحتل لتحافظ على أثار بلادكَ من السُراق الأميين الذين يقسون على التلول الاثرية بالحفر الغير منظم وبدون خطط استكشافية علمية ، حيث تتلف معاولهم الغبية اكثر من 3 أرباع اللقى الأثرية التي يحصلون عليها من هذا الحفر الهمجي.
أدخل في معطف الذكريات ، وأرتديه في حلم مزعج يسكنني في السنين الثلاث من الاحتلال حتى رحيل المدرعات عن أور وعادت الى روما مثلما عادت خيول وجيوش الاسكندر قبلهم ، فلا يمكن لروما أن تفكر كي تبقى أكثر في تلكَ في أرض اخافت أهوارها جنود الملك المقدوني واعتقدوا أن غابات القصب هي أرض الجن والظلمات والرجال قصار القامة وسيوفهم العصا الغليضة ، وهذا الوصف هو لواحد من القادة العسكريين الذين كلفهم الأسكندر بقيادة جيشه لأختراق المياه المغمورة في جنوب بابل لأجل الوصول الى مملكة ميسان ومن ثم الذهاب الى بلاد فارس .
وحتما القائد العسكري كان يقصد المعدان .عرب الأهوار الأوائل وما يزالون مع سيوفهم العصي الغليضة والتي نطلق عليها في العامية الجنوبية ( التوثية ) وشبيهها في العامية المصرية ( النبوت ) وهي تستخدم أصلا لضرب مؤخرات الجواميس حين تُعاند قطعانها في الاصرار لتبقى مستمتعة في قيلولة الماء .
هو زمن الطين والأساطير لم يتبقَ منه سوى الذكريات تلك التي تغذي فينا الحنين مثلما يغذي العطر النحلة لتصنع شهد حياتها.
يُسجل الطين وجه حزيناً للمدينة ( الناصرية ) وعندما يرتدي لون دمعته في سبات الانتظار وجبهات الحروب ومواكب العزاء .
قدرية تتجانس في الفعل والقول وتمتد حكايات هاجسها في عمق ما نتخيله ، هو خيال ما تملكناه منذ أن رضعنا حليب أثداء أمهاتنا والى اليوم.
الشاطيء والجسر والمتنزه وحديقة غازي وبستان حاج عبود وبستان زامل ومقاهي شارع الجمهورية وارصفة الحبوبي ومقبرة الصابئة وصفاة الخضرة والسمك وسوق سيد سعد وساحة ثانوية الجمهورية وقرية فرحان وباب الشطرة وسيف الحنطة والشعير وسوق الصفارين والندافين والبزازين والصاغة المندائيين ، وأمكنة أخرى تضج بالصور ومانشيتات افلام السينما كالتي كان يحملها ( كوزان ) ويجوب بها شوارع المدينة يعلن عن بدء العرض الأول للفيلم الهندي الساحر ( سنكام ) في سينما الاندلس الشتوي ، والفيلم اليوناني ( غريب في جزيرة المراهقات ) في سينما البطحاء الصيفي . وقبلهما كانت سينما الشعب ، وأخرى سينمائيات بدائية كانت تتنقل بين المحلات أو تلك التي يطلق عليها السينما الجوالة أو سينما بهو البلدية .
صورة المدينة هي صورة حياتنا ، منذ أن وقعَ الباشا مدحت فرمانه وهو يلوذ بعطر وسادة زوجته الشركسية ــ البغدادية ، وحتى مجيء ناصر باشا السعدون من مضارب عشيرته في منطقة الخميسية ليكون أول متصرف للواء الناصرية ( المنتفك) وليبدأ عصرنة المكان ، فتنمو فيه الثقافات والاعراق ليجمع في ألفة الفرات والنخل الحلم المسلم والمسيحي والصابئي واليهودي.
بين يوم أفتتاح أول مبنى لسراي الحكومة في مدينة الناصرية وبين القرار الظالم الذي اتخذ بتهديم مبنى المحافظة بعد 2003 .وكذلك مبنى البلدية وهما يشكلان بعض معالم هندسة بناء المدينة وتراثها ، تسكن تواريخ المكان غصة وألم عندما نفتقد الشواخص التي ابتدأت مع الطين والقصب والآجر وخشب بيوت الشناشيل اليهودية في محلة التوراة ، ليزحف العمران المرتبك وفوضى الزحام والهجوم السكاني القادم من الريف الى المدينة.
تتمدد المدينة بكتل الأسمنت ، وتختفي جمالية الطين ويتغير لونه حتى في ضفاف النهر حيث الفرات المالح وأطنان النفايات ومحاولات سريعة لزراعة زينة ملونة قد تختفي مع أول هطول للمطر…
هذا الأمتداد يوازيه تمدد بحر من الأنين والحنين الى أزمنة لم تعد قائمة ، أزمنة جرفتها رياح متغيرات الطبائع والثقافة والعولمة ، لكن مدينة مثل الناصرية لن تتغير برؤى وتداخلات ما يحصل ، لأنها من المدن النادرة في هذا الكون من تربط وجودها الجغرافي بوجودها الروحي بفضل التناسل النقي لم يولدون في بيوتها أو أؤلئك الذين تسكنهم غفوة الحلم على سطوحها في ليالي الصيف حيث تبعث النجوم رسائل تواريخ المكان في أقداره التي عاشت ازمنة الدمعة والعرس وخواطر الانبياء ونحيب أولاد الأمام القتيل ، الى زمن دخل فيه المارنيز خاصرة المدينة من جهة البصرة ثم أعطوا للطليان مهمة الحفاظ على الأمن وتنفيذ بنود الأحتلال.
زمن بعيد بين هذا وذاك…
المدينة تعيش من جديد ، تودع مآسي الحرب وتستقبل هواجس جديدة ، فيها الكثير من الأمل الذي لم يتحقق بعد ، لكنها تعي تماما قدرتها على الثبات وصنع الحياة والسير بخطا جنود أور صوب صحارى السفر البعيد لأكتشاف الاسطورة والطور الصبي وعودة الحمامات التي اطلقهن عدنان الجمباز من سطح بيتهم بأتجاه جهة الشمال ، حيث تعودت المدينة أن تستقبل نحيبها الأتي بتوابيت شهداء حرب برزان وعبادان وبنجوين وغيرها من المأسي التي أوجعت الجسد الناصري بالشظايا ورصاصات القنص وشهادات وفاة المعدومين الذي رفضوا الحرب أو اولئك الذين عاشوا السياسة المقاومة.
الناصرية حاضرة لموسيقى الطين والقير ورخام كهنة قصائدها ورواياتها وخشبات مسارحها.
هي تعيش لتولد ، وليس تولد لتعيش ، لأنه قادرة على جعل المتغيرات تحمل عطر الفقراء وبساطة الحياة .أنها من المدن الأنيقة حتى عندما تتعب شوارع واسواقعا ويموت الثيل في حدائقها بسبب نقص الخدمات البلدية ، ومثل عنقاء لها انبعاث يتجدد في حلم ابناءها ، لتمسكَ صيرورتها وتمضي ، تحمل طاسة الطين على رأسها لتشيدَ لوجودها معابد الشوق وابيات الابوذية وجوامع الآذان ومنادي المندائيين .
مدينة صنعها الباشوات والآلهة. صنعها تلك الشموع البريئة لضمير الخواطر التي عاشت بين القراءات الخلدونية ورسائل الغرام ، الضمير الذي يحاول أن يبقى بالرغم من مواسم الجوع والعطش والهجرة الذي عاشته المدينة وتحاول اليوم أن تعيد بهاء لحظة نهوضها وسط غرين الطوفان والقحط لتصنع سعادتها في حلم وأمل وصلاة وأغنية..
هذا الطين.
وتلك الآلهة…
وأؤلئك المحتلون الذين عادوا الى روما .
المدينة وحدها ( الناصرية ) بقيت تعيد صدى نواح كربلاء في عمق روحها الممتلئة بزرقة حقولها وحدائقها وصباح شوارعها الممتدة كما تمتد شرايين قلوب الفقراء الى جسد الرغيف والدمعة والحزن.