السياسة في حديث الناس ليست شأناً يُدار في أروقة القصور أو خلف الأبواب الموصدة، بل تُصاغ ملامحها في الأزقة والمقاهي الشعبية، حيث تختلط رائحة الشاي برائحة الهمّ العام. هناك، بين الطاولات المبللة والضحكات المبحوحة، تُدار الأمم على سبيل المزاح، وتُرسم الخرائط بملعقة سكر، ويُعاد توزيع الثروات على الورق فقط. كل مواطن سياسي بالفطرة، محلل بالصدفة، وخبير في “الوضع العام” بحكم ما يسمع لا بما يعرف. إنها ديمقراطية المقاهي، حيث الحديث متاح للجميع، والفهم اختياري، والتأكد من المعلومة ترف لا يليق بالمقام.
يبدأ أحدهم الحديث بنبرة دبلوماسية حذرة، كأنه يشارك في مؤتمر دولي:
“والله يا أخي، الأمور غير طبيعية.”
ثم يواصل بثقة العالم ببواطن الأمور:
“الكل يعرف، القرار مطبوخ من زمن طويل.”
ولا أحد يسأله من الطباخ، لأن الجميع يعرف أن “الطباخ” شخصية غامضة، تتكرر في كل رواية سياسية دون أن يراها أحد.
الحديث السياسي الشعبي عندنا يشبه مزاداً للفهم، من يرفع صوته أكثر، يبرز نجمة.
الحقائق فيه لا تزن شيئاً، فالمهم الإيقاع والنبرة والعين اللامعة التي توحي بأن المتحدث “يعرف شيئاً خطيراً لا يريد قوله”.
السياسة هنا ليست علم إدارة الدول، بل فن إدارة الكلام.
الناس يتحدثون عن السياسة كما يتحدث الأطفال عن السحر: بخوفٍ، ودهشةٍ، ورغبةٍ في المشاركة في لعبةٍ أكبر منهم.
كل شيء عندهم “مدبر”، وكل حدث “مخطط”، وكل تصريح “وراه نية”.
وإذا خالفهم الواقع، قالوا مطمئنين إلى حدسهم الذي لا يُخطئ:
“هم غيروا الخطة!”
السياسة عند هؤلاء طقسٌ جماعي للتنفيس، وساحة رمزية للمشاركة في مصيرٍ لا يُستشارون فيه.
يتحدثون ليشعروا أنهم فاعلون، فيمارسون المعارضة من فوق الكراسي البلاستيكية، ويستعرضون خبراتهم في الجغرافيا السياسية فوق فناجين الشاي.
وفي نهاية الجلسة، حين تتعب الحناجر وتبرد الأكواب، يُسدل الستار بجملةٍ تصلح لكل مقام ومقال:
“الله يعين البلد.”
وهكذا يستمر العرض: محللون بلا ملفات، وقراء للمستقبل بلا تاريخ، ومواطنون يرسمون خرائط العالم على بخار الشاي.
السياسة عندنا، يا سادة، فاكهة ناضجة على ألسنة الجياع… طعمها حامض، لكن لا أحد يكفّ عن عضّها.