في زمن الطغيان، تُصبح المظلومية راية. تُرفع في وجه الاستبداد، وتُستخدم لحشد الجماهير، وتُقدّم كدليل على شرعية المعارضة. إنها صرخة الضحية، ونداء العدالة، وبوابة الأمل. لكنها ليست حصانة أبدية، ولا صكّ غفران سياسي.فحين تتحوّل المظلومية إلى امتياز، وإلى ذريعة للفساد، وإلى حصانة ضد النقد، فإنها تفقد معناها، وتُصبح أداة للهيمنة، لا للتحرّر.
من المعارضة إلى الاستحواذ
هذا ما حدث في العراق بعد 2003. المعارضة التي كانت تُبشّر بالتحرير، أصبحت تُكرّس الاحتلال بالإنصياع له. والتي كانت تُدين التبعية، أصبحت تُراكمها. والتي كانت تُنادي باسم الشعب، أصبحت تُراكم الثروات على حسابه.كانت تبشّر بالتنمية، فأصبحت أداة للتخلف. كانت ترفع شعار العدالة، فأصبحت تُعيد إنتاج الظلم بأدوات جديدة.
لقد تحوّلت سردية المظلومية إلى خطاب سلطوي يُبرّر كل شيء:
وهكذا، لم تعد المظلومية وسيلة للتحرّر، بل أداة للتسلط وتبعية للدول في الخارج. ولم تعد دعوة للعدالة، بل غطاء للغنيمة ونهب المال العام.
آية تكشف النفاق السياسي
ولعلّي أستحضر هنا قوله تعالى:
﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (التوبة:69)
فالآية تصف بدقة حال من يرفعون شعارات الدين والمذهب والطائفة، بينما أفعالهم تُعيد إنتاج فساد الأمم السابقة. استمتعوا بنصيبهم من الدنيا، وخاضوا في الكذب والتضليل، فحبطت أعمالهم. إنهم المنافقون الذين يُظهرون التدين ويُمارسون المنكر، يُنادون بالوطنية وهم أتباع الخارج، يُطالبون بالعدالة وهم غارقون في المحاصصة.
من التحرير إلى التدمير
في عصر ما بعد الاحتلال، نرى كيف تحوّلت شعارات “المماليك الجدد” إلى أدوات للتدمير:
الشعار الأصلي |
التحول السياسي ما بعد استلام السلطة |
الاحتلال |
“تحرير” |
التبعية |
“الدبلوماسية” |
الديمقراطية |
“المحاصصة” |
وهكذا، تحوّلت المظلومية إلى غنيمة شرعنوا فيها الفساد ونهب المال العام على أنها حق لهم. وتحول خطاب الضحية إلى خطاب المتسلّط. فتحولت المعارضة إلى نسخة من فساد الطغمة البعثية السابقة.
حين تصبح الضحية جلادًا
الناجون الخطيرون هم أولئك الذين نجوا من الطغيان، لكنهم لم ينجوا من غواية السلطة. حملوا جراحهم كوسام، ثم استخدموه كسيف. وحولوا حرمانهم أثناء المعارضة إلا شرعية لسرقة المال العام (بالمليارات). وبدلاً من أن يُعيدوا بناء الوطن، أعادوا إنتاج الخراب. وبدلاً من أن يُداووا الجراح، فتحوا جراحًا جديدة.
إنهم يُطالبون بالوفاء لتضحياتهم، لكنهم لا يُضحّون بشيء. يُطالبون بالتمثيلالديمقراطي لطائفتهم، ولكنهم لا يُمثّلون إلا مصالحهم. ويُطالبون بالعدالة، ولكنهم لا يُحاسَبون على قاعدة “من-أين-لك-هذا”؟
نحو استعادة المعنى
لكي تستعيد المظلومية معناها، يجب أن تُربط بالمسؤولية، لا بالامتياز. يجب أن تُصبح بوابة للمحاسبة، لا حصانة ضدها. يجب أن تُستخدم لبناء وطن، لا لتقاسم غنائمه.
فالمظلومية ليست نهاية الطريق، بل بدايته. وليست صكًّا للهيمنة، بل دعوة للتحرّر. ومن يرفع راية الضحية، عليه أن يكون أول من يُجسّد قيم العدالة، لا أول من يُفرّغها من معناها.
رسالة إلى الجيل الجديد: لا تورّثوا الهزيمة واليأس
أيها الجيل الصاعد، لا تقبلوا بهذا الواقع السياسي الراهن. لا تنخدعوا بالشعارات التي ترفعها وجوه مألوفة، فهي لا تمثّل الدين، ولا المذهب، ولا مصالح الطائفة. إنهم يُشبهون المنافقين في زمن النبي ﷺ، الذين قال الله فيهم:
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِوَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ، نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (التوبة: 67)
هؤلاء يُشرّعون المنكر، ويُضيّقون على المعروف، ويُغلقون أبواب الإصلاح، ويُراكمون الثروات باسم الدين، ثم ينسون الله، فينساهم التاريخ. فقد وصفتهم الآية بأنهم هم “الفاسقون”.
فهم دائماً ما يرددون بأن لا بديل لهم سوى “حزب البعث” و “داعش” فيزرعوا في نفوسكم الخوف والهزيمة حتى يوصلوكم إلى حالة اليأس. فلا تسمحوا لهم أن يُعيدوا إنتاج الهزيمة في وجدانكم. فهم ليسوا قدرنا، بل هم أزمتنا التي يُراد حلها، وهم مَرضُنا الذي يجب أن نتشافى منه.
لا تورّثوا الخضوع لهم ولا لأسيادهم في الخارج، فأبواب الدنيا والمستقبل هي ساحتكم. ولا ترثوا المظلومية من نفوسهم المريضة فقد عفى الزمن عليها، بل اخلقوا من موارد بلدكم الطبيعية والبشرية تنمية زاهرة وحياة كريمة لائقة بكم. فأنتم لستم امتدادًا لخيبة الماضي، بل بذرة التغيير القادم.
غيّروا الشعارات، غيّروا الرموز، غيّروا المعادلات. لا تكتفوا بالنقد، بل اصنعوا البديل. فالمستقبل لا يُكتب بالشعارات، بل بالأفعال. ومن لا يُمثّلكم، لا يستحق أن يتحدّث باسمكم.