“وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد”. (البقرة: 205)
حين يُرفع شعار الديمقراطية في وجه الاستبداد، يُظن أن النور قد بدأ. أن الشعب سيحكم، وأن المؤسسات ستُبنى، وأن العدالة ستُستعاد. لكن حين يتحوّل هذا الشعار إلى قناع، يُخفي خلفه فسادًا ممنهجًا، وتبعية عميقة، وتدميرًا للهوية، فإن الديمقراطية نفسها تُصبح أداة للهيمنة.
هذا ما حدث في العراق بعد 2003. المعارضة التي كانت تُبشّر بالديمقراطية، استخدمتها لتقنين الفساد، ولتثبيت المحاصصة، ولشراء الولاءات. لم تكن الديمقراطية عندهم عقدًا اجتماعيًا، بل صفقة حزبية. لم تكن وسيلة لبناء دولة، بل أداة لتثبيت حكمهم.
ديمقراطية بلا سيادة
في كتابنا العراق إلى أين؟، بيّنا كيف تحوّلت العملية الديمقراطية إلى مسرحية انتخابية تُدار من قبل الأحزاب تبعاً لمتطلبات دول الخارج، وتُوزّع فيها المناصب على أساس طائفي وعرقي، لا على أساس الكفاءة أو المشروع الوطني، وأصبحت نتيجة علمية “المحاصصة” أن:
البرلمان أصبح سوقًا للمساومات.
الانتخابات أصبحت وسيلة لإعادة تدوير نفس الوجوه.
الدستور أصبح وثيقة محاصصة لا عقدًا وطنيًا.
وهكذا، تحوّلت الديمقراطية إلى قناع يُخفي فسادًا عميقًا، وتبعية مهينة، وانهيارًا مؤسساتيًا شاملًا.
من الديمقراطية إلى الغنيمة
الطبقة الحاكمة، التي جاءت من رحم المعارضة، كانت تحمل جراحًا حقيقية لكنها لم تُعالِج ماضيها المأساوي. بل جعلتها مبررًا لكل انحراف.
ولكن الديمقراطية، في جوهرها، تقوم على المحاسبة، وعلى تداول السلطة، وعلى احترام الإرادة الشعبية. لكن في العراق، تحوّلت إلى وسيلة لتقاسم الغنائم، ولتثبيت الولاءات، ولتدوير الفساد.
لقد خاضوا في نفس المستنقع الذي خاض فيه من قبلهم، كما تقول الآية:
“كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا”… (التوبة: 69)
وهكذا، أصبحوا نسخة من الطغيان والفساد الذي أسقطوه. بل في بعض الأحيان، أسوأ. لأنهم فعلوا ذلك باسم الدين، وباسم الشعب، وباسم المظلومية.
دعوة إلى الجيل الجديد
جيل اليوم ينظر إليهم، فيرى أن الديمقراطية، حين أُديرت بأيديهم، لم تُنتج لا مساواة ولا عدالة، بل فسادًا وسرقة المال العام. فلم تُنتج هذه الديمقراطية سيادة، بل تبعية؛ ولم تُنتج مؤسسات، بل صفقات.
وهنا، لا بد من وقفة حضارية. لا بد من إعادة تعريف الديمقراطية. لا بد من بناء مشروع لا يقوم على الجرح، بل على الشفاء. لا على المظلومية، بل على المسؤولية. لا على الغنيمة، بل على الأمانة.