9 أبريل، 2024 8:41 م
Search
Close this search box.

النائمون “غفلةً”

Facebook
Twitter
LinkedIn

عدت الى مدينة كانت “فاضلة” حين غادرتها لآخر مرة قبل بضع سنوات “مضطرا كبقية اهلها” حينا و”مختارا لغرض دنيوي” حينا آخر ، وهذا شأن كل ابن آدم و ديدنه ،
كانوا ذلك الحين وتلك السنين أناسا وادعين وتجارا معروفين وقرويين كرماء ودودين ومدنيين مثقفين، و طلبة مجتهدين ملتزمين واساتذة كفوئين مخلصين متعاونين ،وعمالا يكدّون محللين محرمين ومهندسين طامحين متدرجين وأطباء مقتنعين خدومين ، وأصدقاء حميمين صدوقين ومشايخ علم وقورين ، وشبابا يتجمعون فرحين انقياء محبين ، و أقرباء رحماء يتواصلون بصفاء وحبل من الود متين .
كانت مساجدا يملؤها الإيمان والتراحم ، وبيوتا يسودها الود والتفاهم ، وشوارعا تشيع فيها المحافظة والوقار ، واسواقا يغلب على طابعها القناعة والبشر وشيء من الازدهار ، ومؤسسات ودوائر حكومية يشيع بين أفرادها ومراجعيهم التقدير والتسهيل ،ومحاولة الإرضاء وكسب الشكر أو رد الجميل.
كنتَ إذا ضاق صدرك انتقلت الى اصطحاب رفيق ،وإذا ضاق جيبك استعنت بموقف من صديق ، واذا المت بك الشدائد وجدت لدحرها ولهزمها الف طريق . أصحاب ينتظرون زيارتك ، واغراب يعرضون إجارتك ، و أحباب يحزنون لفراقك ، و جيران يحرصون كل يوم على ضمك وعناقك .
إذا عرض لك عارض وجدت المعين ، وإذا عنّ لك شأن رأيت المنجدين ، وإذا هممت بعمل احضرت المختصين ، لا يغشك الا نادر من أخطأت فلم تسأل عنه ، ولا يغدرك الا من جهلته ولم تحذر منه ، ولا يخذلك إلا من لا صلة ولاقربة ولا صحبة بينك وبينه.
كان الغني أصيلا كريما ، وارثا او تاجرا او مجتهدا او حاكما او حكيما ، و كان الفقير راضيا حمودا ، عاملا او موظفا او مستخدما أو قانعا أو ودودا.
سنوات خمس او سبع كانت كفيلة بقلب كل ذلك الجمال الأخلاقي و التعامل الراقي ، وتغيير المودة الى ضغينة والمحبة الى تحاسد والعشرة الى تباعد ، واللهفة الى جفوة والتراحم الى قسوة ، بضع من السنين و حفنة من مال نتن عفن مَهين ، كفت ان تبدل حال المحبين والمخلصين و الأنقياء والطيبين والأصدقاء والمقربين و البنات والبنين ،
فلم تعد ترى أمامك إلا أشباحا لوجوه سوداء مغبرة و إن حرصت على طلاء احدث المساحيق، وعيونا تنظر دون ان ترى إلا الدنانير من الطريق ، و أجسادا ترتدي اجمل الثياب دون رونق او أثر او بريق، عقول شاردة لا تكاد تسمع او تعقل الا لغة المال ، نفوس لاهثة لا تستقر ولا تهدأ على حال ،
إذا طرقت باب أحدهم جفل ، وإذا حدثته شرد عنك وغفل ، و إذا رآك مقبلا هرب يظن أنك بحاجة اليه ، واذا أدبرت عنه هجاك بأقبح مالديه ، لايتسامرون الا مع اشباههم من عبيد الدنيا و المال ، ولا يتزاورون الا من اجل خطة او مؤامرة او قريب نزال .لا يعرفون من دنياهم إلا ماذا سيكسبون ، و لا يجلسون الا ليتحالفوا فيدبرون ويخططون ، ولا أظنهم ينامون او يهجعون،
و كيف ينام من لا يعرف من ربه الا صلاة لاخشوع لها ولا مصداق لأدائها و لا دوام لأجرها وثوابها ، صلاة لاتمنع عن مال حرام ، وصياما لا يحض على إطعام الطعام ، و حجّا لا يحث على إنفاذ حق او أداء أمانة او رد مظلمة ، وجارا لايكاد يلقي السلام ، و آخر ينفخ كير حدادته في وسط فقراء متعبين قائلين نيام ، وشعائر دينية لا روح لها ولا تقوى صادقة توجهها وتسيرها ، ومشيخة عشائرية لا (حظ فيها و لا بخت) و لا حكم بالحق ولا ردع لباطل ، وكل مايشترى بالمال فهو حلال ، وكل ما استند الى حاكم متغلب فهو حق ، و كل ما أدى الى غنىً فهو بطولة و ذكاء ، لا فرق ان كان برشوة او بخدعة او بسرقة او اختلاس او احتيال او تقصير،
وكيف لا تكفهر الوجوه وقد سلب الشيطان منها التراحم والاخلاص والتقوى ، وكيف لا تسودّ الجباه وتجحظ العيون ويشرد البال وقد تكالب أصحابها على حب الدنيا والتغالب عليها والتدافع على انجس مافيها من قاذورات ، والتزاحم على اعفن مافيها من أدران ، أدران واعفان تزينت بواجهات قصور ، وقاذورات توشحت بسيارات و دور ، و اوساخ تنكرت بوظائف و مناصب ومواكب و حبور،
فصار ابن القرية البسيط المضياف مدنيا بقصر فاره لا ترحيب على لسانه ، و ابن المدينة المتعلم بدويا لا علم يخط ببنانه ، و الغني لارحمة ولاتواضع عليه ،والفقير لارضا ولاقناعة لديه ، والتلميذ لا احترام يلزمه ولا توقير ، والاستاذ لا خطة تحكمه ولا تفكير ، والطبيب لا انسانية تدفعه ، والمسؤول لا أصالة عن الدنية ترفعه.
شيطان ما او تدبير ما أو تقدير ما -والعياذ بالله- فتح عليهم طريق المال الحرام أو السائب أو مجهول المصدر أو المجموع بالتقصير او المتحصل بالاحتكار او استغلال حاجات الناس بعضهم لبعض- ليسير بهم الى هاوية قريبة لا أظن ان ينجو منها حتى الأبرياء ولن يقتصر عقابها على المنتفعين والأغنياء ،
فقد قال الصادق الأمين :”نعم ،، اذا كثر الخبث” وأخشى انه كثر .
إذا رأيتهم على حالهم -الذي وصفته لك هذا- فرحين لاهين راضين مقتنعين لا يرتدعون ولا يرجعون ولا يراجعون ولا لوما يقبلون ولا عذلا يرضون ولانصحا يسمعون ، ادركت انهم نائمون غافلون مخدّرون ، غاب عن أذهانهم أن الموت قريب ،
و أن : “الناس نيام ، حتى إذا ماتوا ،، انتبهوا”
صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب