18 ديسمبر، 2024 5:16 م

المُهَاجِرُ العَظِيْمُ ( صَلَّىَ الله عَلَيهِ وسَلَّم )

المُهَاجِرُ العَظِيْمُ ( صَلَّىَ الله عَلَيهِ وسَلَّم )

في تاريخ الإسلام هجرتان ؛ هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة فراراً من أذى مشركي قريش ، وهي أكثر وقائع السيرة النبوية في سياقها التاريخي جدلاً ، وأخصبها حديثاً . والمستقرئ للسيرة النبوية يدرك أن دوافع الهجرة إلى الحبشة ليست خافية ، كما أن تحديد مكانها ـ أي الحبشة ـ يدل على وعي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسعة إدراكه بأساليب المشركين في مواجهة الدعوة الإسلامية . ولقد اختار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الحبشة مكاناً للهجرة بعد أن تأكد أن النجاشي حاكم الحبشة ملك عادل لا يظلم عنده أحد. ولقد أشار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه : ” لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد “.
ـ الهجرة الأولى .. دوافع ونتائج :
و حديث هجرة المسلمين إلى الحبشة لأمر شائك وشيق أيضاً ؛ فالدوافع إلى الهجرة معلومة ويمكن للناظر حصرها في بعدين لهما ثالث هما ؛ الاضطهاد الديني ، والتعذيب والتكيل بالمسلمين . ولكن هناك سبب ثالث مهم جدير بالذكر والاهتمام ، وهو نشر الدعوة خارج مكة ، وهذا ما أشار إليه المؤرخون ، حيث أشاروا إلى أن الرسول r كان يبحث عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة ، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ” .
إن واقعة هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة فراراً من أذى مشركي قريش ، لمن أكثر وقائع السيرة النبوية في سياقها التاريخي جدلاً ، وأخصبها حديثاً . والمستقرئ للسيرة النبوية يدرك أن دوافع الهجرة إلى الحبشة ليست خافية ، كما أن تحديد مكانها ـ أي الحبشة ـ يدل على وعي رسول الله r وسعة إدراكه بأساليب المشركين في مواجهة الدعوة الإسلامية . ولقد اختار الرسول r الحبشة مكاناً للهجرة بعد أن تأكد أن النجاشي حاكم الحبشة ملك عادل لا يظلم عنده أحد. ولقد أشار الرسول r إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه : ” لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد “.
ولأن الفلسفة الكامنة وراء فكرة هذا الكتاب لا تعني مباشرة بذكر أحداث السيرة النبوية وتفاصيلها التاريخية فإننا سنلقي بعض الضوء على بعض الوقائع المرتبطة بحادثة الهجرة إلى الحبشة .
وهجرة المسلمين إلى الحبشة مثيرة وجاذبة للعقول ؛ فالدوافع إلى الهجرة معلومة ويمكن للناظر حصرها في بعدين لهما ثالث هما ؛ الاضطهاد الديني ، والتعذيب والتكيل بالمسلمين ، ولكن تفاصيل ما قبل الهجرة وأثنائها قد يحيطها قدر من الغموض ، وربما نجد عتمة ونحن نتلمس أطراف هذه التفاصيل في سيرتي ابن إسحاق وابن هشام .
ولكن هناك سبب ثالث مهم جدير بالذكر والاهتمام ، وهو نشر الدعوة خارج مكة ، وهذا ما أشار إليه الأستاذ سيد قطب في كتابه ” في ظلال القرآن ” ، حيث قال : ” ومن ثم كان يبحث الرسول r عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة ، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ” .
وهذا يجعلنا نسلم بالقول بأن هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة كانت لمهمة سامية لنصرة الدين الإسلامي وتوسيع نطاقه خارج شبه الجزيرة العربية .
ولكن يمكننا أن نقول في شأن هذه الهجرة أن معظم من هاجر إلى الحبشة لم يكونوا من أثرياء مكة ، لذا قد لم تتح لهم فرصة السفر والترحال خارج مكة ، ورغم أن هذه الملاحظة قد يراها البعض عيباً وقصوراً ، إلا أن قلة الخبرة بالسفر جعلت هؤلاء المهاجرين الكرام يرون في هجرتهم مكرمة أولاً لأنهم يفوزون بدينهم بعيداً عن مشركي مكة ، كما أن قلة الأسفار قد تكون فضلاً عند هؤلاء ، لأنهم لم يخالطوا من قبل أخطار السفر والترحال والهجرة فمن ثم تكون نفوسهم وأفئدتهم مطمئنة بعض الشئ لما لم يخالطونه من مصاعب تقترن والسفر والهجرة والانتقال إلى أماكن بعيدة .
وقلة الثراء لم نكن نشير إليها لإلصاق عيب بصحابة رسول الله r ، فلن يكون منا هذا أبداً ، ولكن للتأكيد على أمر بالغ الأهمية ، فمعظم من سافر إلى الحبشة لم يجيئها تاجراً أو كرجل موسر ، إنما جاءها بدينه الذي هو عصمة أمره ، وهو محض نجاته من الشرك والوثنية ، وكفى بالله رفيقاً وسنداً ، كما أن عظمة التمسك بدين الله تفوق عظمة امتلاك المال والنفوذ والقوة بالجاه والعتاد ، وكان هذا سر نجاح هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة .
ويمكننا أن نتلمس عبقرية أخرى لرسول الله r في اختياره للحبشة مكاناً للهجرة ، وهي أن الحبشة كانت تعتبر مركزاً مهماً من مراكز التجارة ، وهذا سيساعد المسلمين في العمل بعدما ضن عليهم اكتساب العيش والرزق في مكة نتيجة اضطهاد المشركين .
ـ الغرانيق العلا :
وقف المستشرقون طويلاً أمام حديث الغرانيق ، ولا شك هي وقفة حقد وكراهية للإسلام ورسوله وللمسلمين كافة ، حتى حينما سئل ابن إسحاق عن حديث الغرانيق قال : ” إنه من وضع الزنادقة ” .
ففي رمضان سنة خمس من تاريخ النبوة ، أي بعد هجرة المسلمين بحوالي ستين يوماً خلت خرج رسول الله r إلى المسجد الحرام ، وكان حول الكعبة نفر كبير من قريش ، وكانت قد نزلت على رسول الله r سورة النجم ، ولا شك أن قصة الغرانيق قصة ملفقة ، ومتهافتة ، دسها من دس حقداً وغلاً على الإسلام والمسلمين ، وهي تعد بحق من الأساطير الخرافية التي لا ولن تليق بصاحب العصمة رسول الله r ، وتتلخص في أن رسول الله r قرأ على هؤلاء النفر سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى : ) أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) ( ( سورة النجم / 19 ـ 20) ، وقرأ بعدها r:” تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى ” ، قال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، ولقد علمنا أن الله يرزق ويحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع عنده، فلما بلغ السجدة سجد ، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم على السواء ، إلا شيخاً من قريش ؛ رفع إلى جبهته كفاً من حصى فسجد عليه .
ومعظم من ذكر هذه الأسطورة يقول إن رسول الله r لما قالت قريش : ” أما جعلت لآلهتنا نصيباً فنحن معك ” ، كبر عليه ذلك فجلس في بيته حتى أمسى ، ثم أتاه جبريل ( عليه السلام )فقرأ عليه سورة النجم ، فقال جبريل ( عليه السلام ) : أو جئتك بهاتين الكلمتين ؟ ، يقصد تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى ، فحزن الرسول r حزناً شديداً ، وخاف من ربه ، فأنزل الله عليه : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) ( ( سورة الحج / 52) .
والمستقرئ لهذه الواقعة التي لا تخرج عن كونها أسطورة من الأساطير الخرافية يتأكد على الفور أنها قصة ملفقة ومدسوسة على أكرم الخلق أجمعين ، ويجدها تخالف العقل والمنطق والتاريخ والسياق النبوي نفسه .
فالقاطع للشك أن الله تعالى أخبرنا بأنه تعهد حفظ قرآنه من أن يدخل عليه ما ليس منه ، يقول تعالى : ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ( ( سورة الحجر / 9) .
ونعلم أنه ليس للشيطان حظ ونصيب من المؤمنين ، فما بالكم برسول الله r ، يقول الله تعالى في كتابه العزيز : ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (83) ( (سورة ص /82 ـ 83) . وكيف هذا ، ورسول الله r هو القائل لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل .
والحجة الأخيرة التي نوردها ونحن في سياق الحديث عن قصة الغرانيق ، تتعلق بصاحب السيرة r ، فالعارف بالرسول r وحياته وصفاته وشمائله ومكارم أخلاقه يأبى صحة هذه القصة الملفقة الباطلة . فهو منذ طفولته ، ومروراً بصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط ، وحادثة جبل الصفا معروفة وقد تم ذكرها في ثنايا هذا الكتاب من قبل ، وكان صدق النبي r مسلماً به عند الناس كافة ، فهل يُعقل أن هذا الرجل الذي عُرِف بالصادق الأمين أن يقول على ربه ما لم يقل ؟ .
وهل من الطبيعي أن مثل هذا الرجل بصفاته وصنائعه وطباعه يخشى الناس والله أحق أن يخشاه ؟ إن ما جاءت به قصة الغرانيق التي دسها من دس لضرب من المستحيل ، ولو فكر بعض الحاقدين على الإسلام ورسوله قليلاً كيف يقول هذا رسول الله r بعد عشر سنين من بعثته ، وبعد أن احتمل هو ومن معه كل صنوف وفنون الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمقاطعة ، وقطع سبل العيش والحصار الاقتصادي.
والمنافقون الذين يربطون بين قصة الغرانيق وبين عودة المهاجرين من الحبشة ، لم يعوا ويدركوا أن السبب الحقيقي والرئيس لتلك العودة هو نصرة الإسلام وعزته بإسلام حمزة وعمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما ) ، حتى اضطرت قريش بقوتها وبطشها إلى مهادنة المسلمين ، وحينما علمت قريش بعودة المهاجرين من الحبشة ، أدركت أن شوكة الإسلام ستقوى ويعظم أمرها ، ومن هنا فكرت ودبرت وضع الصحيفة التي قرروا فيها ألا يناكحوا بني هاشم ، ولا يخالطونهم ، كما أجمعوا أن يقتلوا رسول الله r إن استطاعوا ذلك ، والله حافظٌ لنبيه . وهذا يجعلنا نسلم بالقول بأن هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة كانت لمهمة سامية لنصرة الدين الإسلامي وتوسيع نطاقه خارج شبه الجزيرة العربية .
ـ الهجرة النبوية .. عهد جديد :
وهجرة ثانية وهي الهجرة الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة المنورة ، وكانت هجرته خالصة لوجه ربه سبحانه وتعالى مخلصاً فيها ، فهيأ الله له إخلاصه وإخلاص صديقه أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) ، وهيأ الله لهما التوفيق في الهجرة . وحين عزم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك مكة إلى المدينة ، ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا ) ( سورة الإسراء : 80 ) .
ولعل خير خبر عن حادث الهجرة وأصدقه ما رواه الصديق أبو بكر بنفسه ، ولما لا ، فعن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها وعن أبيها ) أنها قالت : كان لا يخطئ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي بيت أبي بكر ، أحد طرفي النهار إما بكرة ، وإما عشيا ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه . أتانا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها .
قالت : فلما رآه أبو بكر قال : ما جاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الساعة إلا لأمر حدث . فلما دخل ، تأخر أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أخرج عني من عندك ! قال : يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي . وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله قد أذن لي بالخروج والهجرة . فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : الصحبة . قالت أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها وعن أبيها ) : فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أباً بكر يومئذ يبكي . ولقد روى الصديق أبو بكر ما جرى ليلة سرى مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ما جاء في حديث البراء بن عازب ( رضي الله عنه ) .
فقال : ” أسرينا ليلتنا ، حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلم يمر فيه أحد ، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل ، لم تأت عليها الشمس بعد فنزلنا عندها ، فأتيت الصخرة ، فسويت بيدي مكاناً ينام فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ظلها ، ثم بسطت عليه فروة ، ثم قلت : نم يا رسول الله وأنا أنفض ما حولك ” ( أي أحرسك وأطرف هل أرى خبراً ) .
فنام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براع مقبل بغنمه على الصخرة يريد منها الذي أردنا ، فقلت : ” لمن أنت يا غلام ؟ ” ، قال : لرجل من أهل المدينة ، فقلت : ” أفي غنمك لبن ؟ ” ، قال : نعم ، قلت : ” أفتحلب لي ” ؟ . قال : نعم . فأخذ شاة ، فقلت : ” انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى ” ، ففعل .
فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نائم ، فكرهت أن أوقظه ، فوقفت حتى استيقظ ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله ، فقلت يا رسول الله اشرب ، فشرب . ثم ارتحلنا بعد ما زالت الشمس ، وأتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم ونحن في جلد من الأرض ( أي في أرض غليظة صلبة ) ، فقلت : يا رسول الله أتينا ؟ ، فقال : لا تحزن إن الله معنا ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فارتطمت يدا فرسه إلى بطنها ، أي نشبت في الأرض ولم تكن تتخلص .
وكان المسلمون قد سمعوا بالمدينة خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها ، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار ، فينتظرون قدومه الشريف ، فما يردهم ويقهرهم إلا حر الشمس ، وذات يوم ، أوفى رجل من يهود يثرب على أطم من آطامهم لأمر ينظر فيه ، فبصر به وأصحابه مبيضين ، فلم يملك هذا اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ، هذا حظكم الذي تنتظرونه . فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوه ( صلى الله عليه وسلم ) بظهر الحرة .
وقد روى الإمام البخاري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) قدم فنزل جانب الحرة ، ثم بعث إلى الأنصار ، فسلموا على المهاجرين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه الصديق ، وقالوا : اركبوا آمنين مطاعين . فركب حتى نزل جانب دار أبي أيوب . ولقد فرح أهل المدينة بمقدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فرحاً شديداً ، وصعد الصبية وذوات الخدور على الأجاجير يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعى لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر بالمطاع
وخرجت جوار من بني النجار ، يضربن بالدف ، وهن يقلن :
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
ولقد قال أنس (رضي الله عنه ) يوم أن خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة مرتحلاً ومهاجراً إلى المدينة : ” لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ، أظلم منها كل شئ ، فلما دخل المدينة ، أضاء منها كل شئ ” .
إن أدهش ما في الهجرة العظيمة تفاصيلها ، ومن تفاصيلها إحاطة الله عز وجل بنبيه وصاحبه ، يقول تعالى في ذكر تفاصيل الهجرة : (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة : 40 ) .
وكم من سطور أكثر إمتاعاً تلك التي سطرها عالمنا وشيخنا الجليل الشيخ محمد الغزالي في كتابه الماتع ( فقه السيرة ) وهو يصور لنا حال السير والمسير في ظلمة الصحراء واصفاً هجرة النبي المختار ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه : ” إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين ، فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق ؟ . ما يحس هذه المتاعب إلا من صلى نارها ” .
لكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في رعاية الله وآمنه ، وكفى بالله حافظاً . أتى المهاجر العظيم ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة وهو على يقين بأن الله ناصر لدينه ، فما كان عليه إلا أن يؤسس البناء المتين لمجتمع إسلامي جديد ، فبنى المسجد ، وآخى بين المسلمين ، وحقن دماءهم القبلية ، ووضع عهوداً مدنية مع اليهود .
إن ذكرى هجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تسترعي انتباهنا إلى حقيقة واحدة بجوار جملة من التفاصيل والإحداثيات والمواقف والقصص النبوية الجميلة ، حقيقة أن رسولنا الكريم عظيم طيلة حياته ، عظيم وهو صبي ، عظيم وهو شاب يافع ، عظيم وهو رجل مكتمل الرشد والرجولة ، عظيم في سماحته ، عظيم في يقينه بنصرة الله له ، عظيم في إحسانه وبرِّه ، عظيم في جهاده عظيم في كفاحه ، في هجرته كان عظيماً أيضاً ، لذلك استحق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينال لقب المهاجر العظيم .
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م ).
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا.