عدة حوادث في السنتين الأخيرتين فتحت عيونَنا على اتّساعها، على مشهدٍ مأساويٍّ متخاذل للواقع الذي آل إليه حالُ أهل الثقافة في الأردن. فمنذُ تَدعوُشِ وتسلُّفِ المجتمع، بفعل مليارات أُنفِقَت على مسح هُويَّته، بدتْ الثقافةُ لنا الحصنَ الحصينَ الذي سينهارُ عند أسواره المكينةِ الخطابُ الإسلامويّ الذي يغيّبُ العقلَ، وينحرُ الفكرَ الديموقراطيَّ والحريّاتِ، ويهدّدُ الآخرَ في وجوده!
ولكنَّ الأمرَ كان غير ذلك!
فلقد ثبتَ بالدليلِ القاطع أنَّ المؤسَّسة الثقافيّة الأهليّة التي كانت منبراً للتنويرِ، وساحةً للعراك من أجل الحريّات والتحوّل الديموقراطيّ، والتي كان لها تاريخٌ مشرّفٌ في مقاومة الاستبداد، قد وقعت لقمةً سائغةً طائعةً في أيدي استبدادَيْن؛ الدولة بتاريخها العريق فيه، والمجتمع المتأسلم بما آل إليه، هو في المحصّلةِ أشدُّ خطراً من سابقته (الدولة)، لأنّ سرطانه بلغَ العظم. فعندما يتحوّلُ المثقّف من مثقّف حرّ إلى مثقّف مهادنٍ خنوعٍ، فلنقرأِ السلامَ على دوره المأمولِ في مقاومة الاستبدادِ، ومواجهة الظلاميات المفرّخة، والتعامل بنديّةٍ على الأقل مع الإسلام السياسي.
فالدور الذي تبنّته رابطةُ الكتاب، مثلاً، منذ دورة هيئتها الأخيرة هو دورٌ هزيلٌ يدعو إلى الخجل؛ فمقابل انتهاكاتٍ صارخةٍ لحقوق الإنسان وللحريات العامة وحقوق أهل الكتابة في التعبير والنقد، كان موقفها الذي يدعو إلى الريبة لا يتعدى بياناً غثّاً حول مقتل أحد أشهر كتاب الأردن والمعارضة، وأعني الشهيد ناهض حتّر! ناهيك عن مواقف أخرى تعكسُ مقدار تغلغلِ السلفيّة والإخوانيّة في الرابطة. فجهابذة الثقافة توجهوا خفافاً إلى ثقافة الغيب والأدعية وتهميش المرأة وتحجيب النساء كعورات، بينما ينغل عظم المجتمع بدود التخلفِ والتقهقر والانحطاط، دون أن يُقلقَهم ذلك! وهناك نقابات وروابط فنانين وكليات فنون ليست أحسن حالاً من حال رابطة الكتاب، فهي أيضاً على الطريق المستقيم نحو الهاوية، حيثُ باتت تعتاشُ على قيمِ النفاق الرخيص للداعيةِ المأجور، والسياسيّ المرتهن. وحوادث كثيرة تناولنا بعضها، كشفت الغطاء عما آل إليه المثقف من هزال في الرؤية واتضاعٍ في الهمة.
لم يعد من الممكن إذن الاعتماد على “مثقفٍ تقليدي” انسحبَ من دوره الطليعيّ في مقارعة الاستبداد ونشر الوعي والتنوير، وهو منهمكٌ أشدَّ الانهماك في العَدْوِ خلف الجوائز، وخدمة أنظمةِ العمالة، إما بصمته، أو بمواقفه وكتاباته العلنية المُخزية. ولذا، وبناءً عليه، فقد خلت الساحة المعرفيّة والأخلاقية من فرسان ثقافةٍ تقارعُ من أجل الحريّة والتقدُّم. ولكنَّ الطبيعة التي لا توافق على الفراغ، ظهرت فيها على الفور شريحة ثقافية غير تقليدية، لم تنشأ في أحضان الثقافة المتخاذلة، بل كانت نتيجةَ وعيٍ جديدٍ فرضَتْه أوضاع الحراك العربيّ، في فضيلته الوحيدة وهي كسرُ حواجز الخوف والاستبسالُ لإيجادِ موطئ قدمٍ للتغيير.
لم يعد معوِّلُنا إذن على الروابط الكاسدة والنقابات بأنواعها، في انحطاط همتها واسترخاصها النضال مع الظلام؛ فتلك مؤسّساتٌ غسلنا أيدينا منها، ما دامت صارت حجّة علينا لا لنا. بل معوّلُنا على النشء الجديد من أصحاب الكَلِم الحرّ والمبادرات الخلاقة، التي تتطلعُ وتناضلُ من أجل مجتمعٍ أكثر انجذاباً نحو الخير والجمال والتقدّم. وهي كثيرةٌ جداً ولا ينقصها إلا التشبيك والتوحُّد لتحقيق ما يعجزُ عنه المثقف البائسُ الذي يدور في حلقة السلطة مثل دابة الرحى.
دعونا لا نفقد الأمل…!
نقلا عن الغد الاردنية