23 ديسمبر، 2024 10:38 ص

المُتقَلِبون في العراق

المُتقَلِبون في العراق

إن الثبات والإستقرار – سواء على الصعيد الفردي أو المجتمعي – نعمة غير منظورة كالصحة، ولا تعرف إلا بنقيضها أو عند زوالها. لذا عند وصف هذه الحالة يقال، فرد مستقر، وعائلة مستقرة، ومجتمع مستقر، وبلد مستقر. ومن الواضح أيضاً أن الحروب والفساد يُعَرِّض استقرار المجتمعات وأمنها للخطر كما يمكن أن يقوِّض مبادئ الديمقراطية والأخلاق وسيادة القانون. وأساس ضرب وهدم أي مجتمع هو ضرب ثباته وإستقراره. وهذا ما حدث في العراق منذ 2003 وحتى الان. مما أفقده الثبات واشاع فيه عدم الاستقرار، وساد التقلب والتلون، ونتج عن ذلك ظهور طبقة من المتقلبين في أرائهم والمتلونين في مواقفهم.

– في التسمية والتعريف
تطلق على هذه الطبقة تسميات عديدة، منها المتلونون، والإنتهازيون، والمَصلَحِيون، والميّالون بحسب أهوائهم، والمداهنون، والنَفعيّون، والوصوليون، والمنافقون، والمخادعون، والمراوغون، والمتنازلون، والحربائيون (الحرباء قدوتهم)، والمتقردون (نسبة للقرود)، وغير ذلك. وهم أولئك الأشخاص الذين يتلونون بحسب أهوائهم ومصالحهم التي يخيّل إليك أنّها لا يمكن أن تنتهي بسبب عدم ثباتهم على مبدأ واحد.

وهم بصفاتهم هذه، يختلفون عن فئة أخرى يطلق عليها، الثابتون أو أصحاب المواقف الثابتة، المبدئيون، والعصاميون، والصادقون، والمعاهدون لله، والأوفياء، والمصبوغون بصبغة واحدة، وغير ذلك.

وقد وجدت الطائفتين منذ ظهور البشرية، إلاّ إن الطائفة الأولى ظهرت قبل الطائفة الثانية، لإن العقل البشري يدرك الأشياء البسيطة قبل الصعبة، ويحصل على الرخيصة قبل الثمينة. ويراعي مصالح الجسد وحاجاته ومتطلباته قبل حاجات الروح، أي الأمور الجسدية قبل النفسية والمعنوية. وعادة تظهر الصفات السيئة قبل الجيدة، لذا فإن المتقلبين يظهرون بكثرة في المجتمعات المتخلفة وفي زمن الازمات والكوارث وإشتداد الحاجة. لذا تنتشر صفة التقلب عند ذوي المستويات العقلية المنخفضة، والمستويات الثقافية الواطئة، وفي معسكرات اللاجئين، والسجون، وغيرها. أما الطائفة الثانية أو الأخرى، فهي لا تظهر إلاّ في الطبقات المثقفة والواعية والتي تفضل سمعتها على مصلحتها، والمفكرون، وعند المستويات العقلية المتقدمة، وذوي التعليم العالي، والمصلحون، وأصحاب الرأي.

وفي حساب المصالح والمنافع فإن طائفة المتقلبون هي الأكثر إستفادة وثراءا، حيث المال كان ومازال أكثر الأمور إغراءا لهذه الفئة، وتليه النساء، ثم المناصب. في حين أن فئة أصحاب المبدأ الواحد هم الخاسرون في الحياة، وإن غدوا خالدين على مَر العصور، بعد وفاتهم أو بالأحرى قتلهم والتخلص منهم. ويعد الأنبياء والمصلحين من هذه الفئة. وقائمة الأسماء تطول كالمسيح ومحمد وعلي بن أبي طالب وغاندي ومانديلا وأخرون، وإن غدت قليلة إلى جانب الطائفة الأولى التي يستحيل تعدادهم. فالطائفة الأولى هي الأكثرية، أما الثانية فهي الأقلية.

ويخترق المتقلبون كل مجالات الحياة دون استثناء، فتجدهم موجودين بكثافة في السياسة والإعلام والثقافة والاجتماع والفن والرياضة وغيرها من المجالات الأخرى، لكن أكثر المتلونين سوءًا وأشدهم خطرًا وجرمًا هم المتلونون في الدين، وهذا هو اسوأ استخداماتهم. لذا نرى العديد من رجال الدين في هذه الأيام وقد تفوقوا في تقلبهم على غيرهم، وأصبحت فتاواهم يناقض بعضها البعض. ويكفي أن تنظر الى ثرواتهم لتعرف سبب وثمن تقلبهم. وقد قادت فتاواهم الى كوارث كثيرة، كانت نتيجتها ظهور التشدد والتطرف والإرهاب، وكانت شعوبهم ضحايا تقلبهم.

فهؤلاء الانتهازيون المتلونون موجودون منذ أن قامت البشرية وهم ظاهرة خطيرة ونفوس شريرة تطفو على السطح في الظروف العصيبة أيضا. حيث نراهم يتبنون أفكار ومواقف لا يؤمنون بها ويتغيرون جذريا مع تغير الظروف وكتاباتهم وأقلامهم مسخرة لمنفعتهم الشخصية أملا بالحصول على كيس من الفضة أو بعض الدريهمات. وهذا يعني أنهم يضحون بمستقبل مواطنيهم وشعبهم على المدى البعيد من أجل منفعة ذاتية على المدى القريب.

ومن الطبيعي، أن يكره المتقلبون بشدة ذوي المواقف الثابتة والقيم والمبادئ الراسخة ويعتبرونهم مغفلين وجهلاء ومحدودي الفكر والوعي وبالتالي ينبغي تطهير الساحة منهم، كما أنهم لا يعرفون سوى لغة المصالح المطلقة التي يعملون بكامل استطاعتهم على الحفاظ عليها وتحقيق المزيد منها حتى لو كان ذلك على حساب كرامتهم وإنسانيتهم.. فأينما توجد مصلحتهم يتواجدون لحمايتها بشتى الوسائل التي غالبًا ما تكون وسائل محرمة وغير مشروعة!

وأساليب الفئة الأولى متعددة بتعدد أهوائهم وألوان مصالحهم، ويعرف منها الخداع، والمكر، والنفاق، والرياء، والكذب، والتجويع، والترويع والتهديد، ولا تنتهي بالقتل. في حين إن أسلوب الفئة الأخرى محدد بنوع واحد متمثل في الثبات في الرأي والصمود عليه. ويشكل المتقلبون تهديدا جديا لهدم المجتمعات، في حين إن بناءها يقوم على أكتاف أصحاب المبادئ لأنهم أكثر الناس تضحية وإيثاراً.

– في الأديان
وقد حاربت الأديان طائفة المتقلبين، فموسى وضع لهم قواعد أساسية موجزة يلتزموا بها، سميت بالوصايا العشر. والمسيح ظلّ طيلة سنوات دعوته القصيرة لثلاث سنوات، يُسّمي هذه الفئة ب (أولاد الأفاعي). ووصف هؤلاء قائلا: «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ». وذهب الرسول يعقوب في رسالته قائلا: «رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ».
وظلّ محمد رسول العرب يكشف خداع هذه الطائفة ويحاربهم. والقرآن الكريم مليء بأيات تكشف وتنذر هذه الفئة، وبالمقابل تمتدح الفئة الأخرى. وقد وردت في القرآن الكريم سورة خاصة بهم هي سورة المنافقون، جاء فيها: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وقد أشار الى صفة الكذب لديهم، ووجهي الإيمان والكفر معاً.
وقد إنتقدهم القرآن بأيات كثيرة مثل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. يقول أبي موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة، تقلبها الريح ظهرا لبطن). وقوله كذلك: -: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.

وجاء في حديث نبوي: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ (رواه البخاري). وفي حديث أخر: (اتقوا الله، أعوذ بالله من صباح النار، إياكم والتلون في دين الله، ما عرفتم اليوم فلا تنكروه غدًا، وما أنكرتموه اليوم فلا تعرفوه غدًا). وقال حذيفة بن اليمان لأبي مسعود: إياك والتلون فإن دين الله تعالى واحد (البيهقي 10/42).

وفي مدح الفئة الثانية، أشار لهم القرآن الكريم بالقول: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

ويمكن إعتبار دعوة محمد رسول العرب لقريش منذ 570-632م لإقناعهم ثم لإرغامهم على نبذ عبادة الهة متعددة والسمو بعبادة إله واحد، خير مثال على ذلك.

وصفحات التاريخ العربي مليئة بالطائفتين. فالمتقلبون كانوا سريعين في تغيير مواقفهم تبعا لمصالحهم. في حين كان المبدئيون ثابتون على مواقفهم، فالمسيح كان بإمكانه أن ينقذ رقبته من الصلب لو أنكر انه ملك اليهود، وكان بإمكان محمد أن يقبل عرض قريش في المُلْك والثراء، إلا إنه رفض ذلك بعبارة خالدة قالها لأبي طالب: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته. وقد خاض محمد وأنصاره 64 معركة في حياته، شهد فيها الموت مرات عديدة ولكنه لم يمت إلا مسموماً على يد اليهود.

وواحدة من أكثر الأمثلة سطوعا على التقلب في التاريخ الإسلامي يتمثل في (البيعة)، حيث كان المتقلبون يتقلبون في بَيعَتهم تبعا لأهوائهم. واثناء قراءتي لمصادر ذلك التاريخ، كنت أستغرب كثيراً من أن يعطي شخص ما بيعته لأحد الخلفاء وما أن يخرج ويسير عدة خطوات حتى يقابله شخص أخر يعاتبه على إعطاء البيعة لذلك الشخص، فتراه يتراجع عنها فورا ويبايع هذا الأخير. ومن هنا جاءت واحدة من أكثر أحداث التاريخ الإسلامي مأساوية، ألا وهي مأساة الحسين. فقد أرسل له أهل الكوفة يبايعونه، ثم تنصلوا من بيعته لعدم ثباتهم ولتفضيلهم لمصلحتهم الخاصة. وقد أحسن الفرزدق في وصفهم عندما قال للحسين حين لاقاه في طريقه للكوفة بعد مبايعة أهلها له: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك).

– في علم النفس
وتوصف الشخصية المتقلبة Cycloid في علم النفس بانها: نمط من الشخصية مازال به من السمات تختلف عن السمات الاخرى تماماً ، صاحبها لا يهدأ له بال ولا يستقر على رأي ولا يمكن ان يؤخذ منه قرار واضح او صريح ، فهو يتقلب بعدد دقائق الساعة، وله عدة اراء وخصوصاً في التعامل وازاء ذلك يقول علماء النفس ان تسمية هذه الشخصية جاءت نتيجة حالة المزاج الذي لا يستقر على صورة ثابتة، فهو سريع التقلب في الشعور والعاطفة من حالة الايجابية الى نقيضها في السلبية ، ويتأرجح في المزاج من الانفعال الى الهدوء والسكينة، ومن حالة الفرح والسرور الى حالة الحزن والغم حتى رأى البعض من علماء النفس ان نمط هذه الشخصية اكثر ميلا للشخصية الفصامية لولا ا لبنية الجسمية التي تميل الى البدانة فمعظم الفصاميين هم من اصحاب البنية النحيلة .
تعد الشخصية المتقلبة شخصية ذات ميل شديد للتصرف باندفاع قوي دون مراعاة لأية ضوابط او تبعات ومن صفاته ايضاً ميل الى الحدية في التصرف والسلوك ومن الصعب ان يتوافق اجتماعياً بالرغم من وجود مؤشر قوي وواضح بعدم قدرته على التوازن الوجداني، فهو يتذبذب دائماً في اتخاذ القرار ويتذبذب بين القلق والغضب الى العصبية الزائدة فضلا عن عدم معرفته واستقراره بما يريد حتى سمي بالنزق ” النوع النزقي Impulsive type “.

ومن صفاته ايضاً انه اناني وله القدرة العالية على الهروب من المواقف الحياتية التي بها تعهد او التزام او توكيد للذات، فهو متحلل بكل معنى من كل انضباط او التزام قيمي يؤدي الى انضباط في التعامل. ويمكن القول ا ن نمط هذه الشخصية هو نمط الشخصية السلبية او العدوانية احياناً، فعدم الالتزام والتقيد بالكلمة او العهد لدى صاحب الشخصية المتقلبة يدفع بالأخرين الى فقدان الصلة به او التعامل معه او حتى نبذه بمرور الوقت وبمرور الوقت ايضاً تصبح هذه الشخصية شاذة اجتماعياً.

وعند ذكر الشخصية العراقية، فإنا أول من يتبادر الى الذهن هو الدكتور على الوردي المعروف بنظرية (الشخصية العراقية المزدوجة) عند تصديه لدراستها في معظم مؤلفاته.

لقد وسمت الشخصية العراقية بمجموعة من الخصائص والسمات المتناقضة كالازدواج والتطرف السلوكي والتقلب والانتهازية وتغير الولاء والخضوع للحاكم والثورة عليه بشكل مفاجئ والنرجسية والسيكوباثية والسادية والمازوخية والشجاعة والإقدام والكرم والاعتزاز بالذات، وغير ذلك من صفات وخصائص وسمات بعضها مستمد من مؤشرات جغرافية وبعضها من دلالات تاريخية أو إحداث سياسية.

ولعلي لا أكون متطرفاً حين أقول إن الاسلام ذاته كدين سماوي قد تعرض للتمزق والانقسام فوق ارض بلاد الرافدين فانقسم المسلمون بين الولاء والانتماء، رغم ان بذور الانقسام ولدت في الجزيرة العربية.

وفي انتقالة نحو العصر الحديث أستطيع الاستشهاد بمقولة للملك فيصل الأول في العصر الحديث عام 921 كأول ملك للعراق الحديث حين قال: ((لا يوجد في العراق شعب عراقي، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة، فالبلاد العراقية هي جملة بلدان ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية)).

وهنا أستطيع الاستشهاد بمقولتين، الاولى مشكوك بصحتها، والثانية تعبر عن رأي علمي لاحد علماء البيئة من ضمن القصص التي يتداولها العامة من الناس عن اهل العراق، مقالة تنسب الى الامام علي بن ابي طالب (ع) بأنه وصف سكان العراق بأنهم اهل شقاق ونفاق، ومقالة اخرى تنسب الى الحجاج بن يوسف الثقفي في ذم اهل العراق وقدحهم، وثالثة تنسب الى حديث بين الاسكندر المقدوني ومعلمه ارسطو حول بيئة العراق.

يقال ان الاسكندر المقدوني كتب الى معلمه ارسطو طالبا منه المشورة في انه عزم على (قتلهم جميعاً عن آخرهم) بعد ان اعياه التعامل معهم. فأجابه ارسطو ((لا خير لك في ان تقتلهم، ولو افنيتهم جميعاً، فهل تقدر على الهوى الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء؟ فأن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم فكأنك لم تصنع شيئا)).

وقد شاعت مقولة: “يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق” على ألسنة العرب والعراقيين ونسبوها الى الحجَّاج بن يوسف الثقفي (توفي عام 95 هجرية) الذي ذمَّ أهل العراق لعدم ثبات آرائهم وميولهم السياسية.

– في السياسة
ويكثر تواجد هذه الفئة بين السياسيين، حيث تمثل السياسة حقلا خصبا للرياء والنفاق والكذب والتلون. حتى اقترنت السياسة بالعهر، فقيل: إن السياسة لعبة عاهرة.
وثمة طرفة يتندر بها الكثير من العرب للدلالة على حالة التقلب وكثرة المتقلبين، حيث يقال: عند زيارة القوتلي لمصر سأله عبد الناصر، كم عدد الشيوعيين في سوريا؟ فأجاب 3 ملايين، وكم عدد القوميين؟ فأجاب 3 ملايين، وكم عدد البعثيين، وكم عدد الإسلاميين؟ فأجابه 3 ملايين، فتعجب عبد الناصر والقى القلم، وقال: وكم عدد السوريين كلهم؟ فأجاب كلهم 3 ملايين، ولكن إذا اردتهم شيوعيين فهم شيوعيون، وإذا اردتهم قوميين أو بعثيين أو إسلاميين فهم كذلك أيضا. وهذه الطرفة قيلت بحق العراقيين زمن عبد السلام عارف.
كتب د. جميل واصل يقول: نحن نعرف أن الانتماء الحقيقي لهذا الوطن هو بذلٌ وعطاءٌ وصدقٌ وانتماء، ومنطلقاته التجرد من التصرفات الرخيصة والقيم الهابطة والسلوك المنحرف، لأن من أعلى مراتب الانتماء البذل الذي يصل إلى درجة الفداء والتضحية، والمنفعة فيه لا تعيق العمل الجاد، ولا تحرف السلوك، لأن المبدأ هو الأساس، وصاحب المبدأ لا تهزه الزوابع، ولا تغريه المراكز.
وعندما تختلط الأوراق وتهبط القيم يستطيع المنافقون أصاحب الألسنة المراوغة، والحركات التمثيلية، القدرة على تلوين الوجه والجلد أن يخدعوا الناس بألسنتهم ويوهموا الآخرين بسلوكهم والانبهار بهم، فتارة يتلونون بالدين، وتارة بالوطنية، وأخرى بالانتماء والإخلاص، فإذا كان الوضع يتطلب منهم البكاء يبكون، أو التودد يتوددون، أو الهدايا يرسلون، أو العنصرية يتعنصرون، أو الكذب يكذبون أو النميمة ينمّون، فهم يعتبرون اللصوصية دهاء والخدعة لباقة والكذب ذكاء، وأكل حقوق العباد مرجله، والخنوع والتذلل مصلحة.

نحن نعيش هذه الأيام مع من تحركهم المصلحة، وتوجههم المنافع ويحكمهم حب الذات والمادة، لديهم القدرة على التلون كالحرباء، يتقنون مهارة الثعلبة، ومقدرة القردة على التمثيل، ذئاب الأخلاق، ضباع الطباع، يميلون مع الريح حيث مالت، يهتفون ويصفقون للمنتصر، ليس لهم ذمم تحدد معالم هويتهم، أينما وجدوا الفرصة التي تحقق لهم أهواءهم ومصالحهم لبسوا ثوبها، وأظهروا الإخلاص لها همهم الوحيد الوصول.

يغتنمون الفرصة ليسرقوا قوت الآخرين، ويتسللوا إلى أهدافهم عن طريق التلون، يبيعون أخلاقهم بمصالحهم ومنافعهم، ويأبى الطبع اللئيم أن يفارق سلوكهم، وتظهر علامات الحقد على جلودهم وجوارحهم، التلون همهم الذي أعمى قلوبهم وأبصارهم.

ما أسوأ الأيام التي نعيش غاب عنا من لديهم القدرة على اكتشاف المتلونين، فقد استطاع المتلونون الممثلون أن يصلوا إلى مواقع كثيرة وحساسة، وأن يتسللوا إلى ثغورٍ خطرة وينمون ويتكاثرون ويُفرّخون في جميع المؤسسات والميادين حتى فسدت أجهزة عديدة بفضل عبثهم وتلونهم، وأفسدوا كل الجهود التي بذلت لتكوين مستقبل أفضل لهذه الأمة.

الوطن يحتاج منا في هذه المرحلة الولاء والانتماء والحذر كل الحذر من الذين يجيدون لعبة التلون على أغصان المصلحة، والمنفعة، وحتى في الملابس البراقة، والكلمات المعسولة، ودموع التماسيح، والابتسامة الصفراء.

وقد لا يرتاح لهم بال حتى ينهشون لحوم الناجحين ممن حولهم فهم في بحث مستمر عن أعداء لهم … وأعتقد أنهم إن لم يجدوا عدوا صنعوه بأنفسهم.. وأظنّ أنّ أشدّ أعداءهم هو الصدق … وأعزّ أصدقاءهم الزيف والمكر… فأقنعتهم متجددة بحسب ما يرمون إليه من أهداف تخدمهم معتبرين ذلك ذكاء … مع أننا نعلم أن الفرق كبير بين الذكاء وبين الخداع الذي يقوم مبدؤهم عليه … فهم بزيفهم يصنعون ثغرات في المجتمع لا حصر لها.. ويضعـفون مجتمعاتهم التي يعيشون فيها … سواء أكان مجتمعـًا ذا بيئة عائلية أو عملية أو سياسية … فنرى أكثر السمات البارزة في هذه الأوساط البيئية التي يعيش فيها المتلوّنون أو المقنعوّن الهشاشة والشتات والفرقة عند أي مشكلة بسيطة.

فأصحاب الولاء الصادق، والانتماء الصحيح لا يحبذون صناعة العبارات الكاذبة، ولا يجيدون التمثيل، همهم إظهار الحق والعدل والعمل الجاد، وتغيير الوضع الذي نعيش؛ لأنه أثقل المخلصون في هذه الأمة.

– في عراق اليوم
وفي العراق، فقد تفاقم الأمر بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، فقد جلب الامريكان وسمحوا لمجموعة من المرضى النفسيين لحكم البلاد، وابسط أمراضهم الكذب والتقلب. فقد جاءوا وهم يحملون أسماء متعددة لم يثبت حتى الصحيح منها الاّ بوثائق مزورة إستخرجوها لاحقا. فرئيس الحكم الانتقالي العراقي عام 2005 المعروف ب (عز الدين سليم) في حين إن إسمه الحقيقي هو (عبد الزهراء عثمان محمد). ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي للفترة من 2006-2014 دخل العراق باسم (جواد) ثم أعلن إن إسمه الحقيقي هو (نوري)، وعُرف به. وهذا الأمر يسري حتى على من تقلد أصغر الوظائف من فئة المتلونين هؤلاء والذين تم جلبهم من الخارج أيضا. وقد عرفت شخصيا الكثير منهم في وزارة الخارجية العراقية، فأحدهم وكان كرديا لاجئا في هولندا كان يحمل إسمين هما (أوميد-بيوان) يستخدم أحدهم في هولندا والأخر في العراق، وربما كان القصد من ذلك هو التخلص من المسؤولية والضرائب. فكيف يمكن أن يثق الشعب بحاكم يحمل أكثر من صبغة. ويبدو إن أول نصيحة تقدمها دوائر الهجرة في الغرب هو تغيير إسم طالب اللجوء. وفي تقديري إن ذلك لغرض إخراجهم نفسيا من فئة الثابتون الى فئة المتقلبون، بحيث يساعده ذلك على التقلب والتلون. والموضوع بحاجة لدراسة المختصين في علم النفس.

وإذا كان لتعدد الإسماء وتغييرها ما يبررها، فإن تغيير المواقف السياسية والدينية والأخلاقية ليس لها ما يبررها إطلاقا. وتحفل مواقع التواصل الاجتماعي بصور سياسيين عراقيين إتخذوا من الدين وسيلة للكسب وخداع الشعب، فتظاهروا بالملابس والرموز الدينية، في حين كانت تلك الرموز تختفي لتحل محلها رموز غربية مناقضة لها بمجرد أن تطأ قدمه أرض المطار. إضافة الى فضائح جنسية وأخلاقية كثيرة.

ويبدو إن ضرب أسس الاستقرار المجتمعي في العراق كان واحدا من أهداف إحتلال العراق عام 2003 الى جانب أهداف أخرى بمعاونة فريق من الذين بدلوا إنتماءهم الوطني الى ولاءات أخرى، عندما أقسموا عند منح الجنسية الأجنبية لهم بأن يدافعوا عن ويقاتلوا مع البلد الجديد إذا ما دخل في حرب مع بلدهم الأصلي.

وسنقتصر على إيراد عدد من الأمثلة للتدليل على التقلب في المواقف السياسية، ومن هذه الحالات: الموقف من حركة الاحتجاجات، والموقف من سوريا، والموقف من قطر.

أولاً. الموقف من حركة الاحتجاجات

وعندما ثارت موجة الإحتجاجات في العراق ربيع عام 2015، إحتجاجا على فساد هؤلاء السياسيين نجد إن الكثير من السياسيين قد ركب موجة التظاهر وصرح بأنه سيخرج مع المتظاهرين إحتجاجا على الفساد. لا بل ذهب البعض من النواب الى تقديم إستقالاتهم للمتظاهرين في ساحة التحرير. ولو حاولنا إستقراء موقف عدد من السياسيين لوجدنا تلوناً للمتظاهرين، ثم إنتقادهم لتلك التضاهرات. مما يوحي بالتقلب وعدم الثبات تبعاً للمصالح الخاصة.

1. موقف نوري المالكي
– المالكي مع التظاهرات قلبا وقالبا.
– هدد رئيس ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء، حيدر العبادي، باستخدام نفوذه في الجيش والحشد الشعبي، لإيقاف التظاهرات التي وصفها بـ “المهزلة”.
2. موقف حيدر العبادي
– العبادي: هذا جرس إنذار كبير. ويحيّي المتظاهرين.
– العبادي: (ندعو شبابنا الاعزاء الى تأجيل تظاهراتهم لحين تحرير الفلوجة لأن قواتنا منشغلة بعمليات التحرير وان هذه المعركة تتطلب جهدا كبيرا، وان التظاهرات وهي حق لهم، تشكل ضغطا على قواتنا لتوفير الحماية اللازمة).
– والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي، كان قد حذّر من الذين وصفهم بـ”المندسين” في الوقوف وراء اقتحام المنطقة الخضراء داعيا “المواطنين والقوى السياسية الوطنية الى التكاتف والتصدي الى مؤامرات المندسين البعثيين المتحالفين مع الدواعش المجرمين والذين يقومون بأعمال ارهابية في المدن لإيقاع الفتنة بين المواطنين والدولة”.
3. موقف هادي العامري
– سأخرج مع المتظاهرين.
– قال الامين العام لمنظمة بدر:” في الوقت الذي اضم صوتي الى اصوات المتظاهرين، فإنني لن اشارك في هذه التظاهرات لأنني مشغول في المعارك ضد الارهاب “الداعشي” وفي الاعداد للمعركة القادمة باعتبارها معركة حاسمة ولها أثر كبير على الوضع الامني في بغداد والمحافظات الجنوبية “. واشار الى ان مطالب المتظاهرين مطالب مشروعة وعلى الحكومة العراقية الاخذ بنظر الاعتبار تلك المطالب، لان الدستور كفلها “.
4. موقف سليم الجبوري
– مجلس النواب يدعم التظاهرات السلمية.
– أكد رئيس مجلس النواب سليم الجبوري، السبت، على ان البرلمان سيأخذ بنظر الاعتبار جميع المطالب المشروعة للمتظاهرين، وفق الدستور والصلاحيات وهو ماضي في محاسبة المقصرين، مشيرا الى ان مجلس النواب مع التظاهرات السلمية التي تطالب بتحقيق الاصلاح في البلاد.
5. موقف عمار الحكيم
– يؤيد التظاهرات بقوة.
– التظاهرات منفلتة.
– المتظاهرون بضع عشرات. ويتهمهم بأنهم أتباع داعش وينفذون مشاريعه.
ثانياً. الموقف من سوريا

– رئيس الوزراء العراقي: لم يبق أمامنا إلا الأمم المتحدة بعد أن أصبح السوريون يريدون إعادة حزب البعث الى الحكم. دعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الاثنين الامم المتحدة الى تقديم المساعدة اللازمة لوقف “التدخل الاقليمي” في شؤون العراق، متهما سوريا بدعم منفذي التفجيرات الاخيرة التي استهدفت العاصمة العراقية.
– وتدعم حكومة نوري المالكي في العراق نظام بشار الأسد، وهددت باندلاع حرب طائفية في حال سقوطه. وكان المالكي قد حذّر الاربعاء من أن انتصار المعارضة في سوريا سيذكي حروبا طائفية في العراق ولبنان ويخلق ملاذاً جديدا لتنظيم “القاعدة”. وأضاف المالكي أن “أيا من طرفي النزاع في سوريا لن يتمكن من الإجهاز على الآخر”، محذرا من أنه “إذا انتصرت المعارضة (على نظام الأسد)، فستندلع حرب أهلية في لبنان، وتحدث انقسامات في الأردن، وستشتعل حرب طائفية في العراق”.وقالت مصادر إعلامية مطلعة في بغداد إن مخاوف المالكي من اندلاع حرب “طائفية” في العراق تندرج في سياق الخشية من حصول انقلاب على حكومته بالتزامن مع سقوط نظام الأسد.
– أكد وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري بعد لقاء عقده في دمشق مع الرئيس السوري بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم، على وجود تنسيق بين البلدين في الحرب ضد الإرهاب.
– الجعفري الذي أكد رفض العراق المس بالحشد الشعبي وسائر حركات المقاومة قال “إن الحشد الشعبي وحزب الله حفظا كرامة العرب، مضيفاً أن “من يتهمهما بالإرهاب إرهابي”. ووصف الجعفري الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأنه كان “بطلاً عربياً مدافعاً عن القيم والمبادئ”.
والمضحك في هذا الأمر إن هذه الفئة من الذين مارسوا السياسة، يعارضون حزب البعث في العراق، ويتهمون أي معارض بالبعثية، في الوقت الذي يذهبون يرسلون شبابهم للقتال دفاعاً عن حزب البعث في سوريا.

ثالثاً. الموقف من دول الخليج

– “السعودية منبع الإرهاب ولابد من وضعها تحت الوصاية الدولية”. هكذا طالب نوري المالكي -رئيس الوزراء العراقي السابق- في تصريحات إعلامية اليوم، موضحًا أن الحل الوحيد للسيطرة علی السعودية هو وضعها تحت الوصاية الدولية للحد من نشاطاتها الإرهابية”. وأضاف “المالكي” أن الأمريكيين قرأوا تطورات المنطقة بشكل خاطئ، فقد كانوا يعتقدون أن سوربا ستسقط خلال شهر أو شهرین، وحينما كنت رئيسًا للوزراء حذرتهم وقلت لهم لن تستطيعوا”.
– وزير الخارجية العراقي يشن في كلمة أمام جامعة الدول العربية هجوماً على الدول التي تصنف حركات المقاومة كمنظمات “إرهابية”. ويقول إن من يفعل ذلك هو الذي يدعم الإرهاب ويتبناه. مواقف الجعفري دفعت بالوفد السعودي إلى الانسحاب وفق مصادر الميادين.
من على منبر جامعة الدول العربية شن رئيس الوزراء العراقي ابراهيم الجعفري هجوماً على الدول التي تصنف حركات المقاومة “إرهاباً”. وقال الجعفري في كلمته “إن من يتهم الحشد الشعبي وحركات المقاومة وحزب الله بالإرهاب هو الذي يدعم الإرهاب ويتبناه”.

– وكان وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري قد أكد -عقب لقائه بنظيره السعودي الجبير على هامش اجتماع التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة أمس في واشنطن- عزم الرياض شطب الديون المترتبة على العراق للمملكة -والمقدرة بحوالي ثلاثين مليار دولار- وفتح خط جوي بين البلدين.
نفت وزارة الخارجية السعودية أمس الخميس صحة ما نشرته وزارة الخارجية العراقية عن نية المملكة إسقاط ديونها عن العراق.

رابعاً. الموقف من الحكم المدني

إن واحدة من أكثر المواقف الراهنة تقلباً وتلوناً ونفاقاً في السياسة الداخلية العراقية اليوم هو موقف السياسيين العراق واحزابهم وكتلهم التي طالتها إتهامات خطيرة بالفساد وتدمير العراق طيلة 14 عاما، هو موقفهم الداعي للأخذ بنظام الحكم المدني بعد ترسيخهم لنظام الإسلام السياسي وللطائفية في العراق.

وقد ناضل العراقيون منذ مارس 2011 وبشكل مظاهرات إسبوعية للمطالبة بالحكم المدني تحت شعار شعبي بليغ هو (باسم الدين باكونا الحرامية) أي “تحت غطاء الدين سرقونا اللصوص”.

إلا إن السياسيين الذين دخلوا العراق بعد سنوات لجوء طويلة مليئة بالحرمان والذّل والتفكك الأسري والارتباط بدول أجنبية، قد سرقوا من الجماهير نضالهم وفلسفتهم في إقامة حكم مدني في العراق، بقصد البقاء في الحكم، لإكمال المهمة الموكلة إليهم في تدمير العراق والأنتقام من شعبه الأبي. وسنجمع مواقف أولئك السياسيين وأحزابهم المطالبة نفاقا بإقامة الحكم المدني في العراق بعد 14 عاما من الفساد المنظّم والمشهود بتقارير دولية.

– وكانت المرجعية الشيعية العليا من أوائل المنادين بالحكم المدني بعد أكثر من عشر سنوات من الحكم الأصولي الديني للإسلام السياسي الشيعي تحديدا.
“وإنّ تبنّي السيّد السيستاني مفهوم “الدولة المدنيّة” حاز الكثير من الجدل، فهو لم يأت كمحاولة لتخفيف الأصوليّة الدينيّة، ولم يكن محاولة ذات أبعاد تتعلّق بنصرة طائفة على حساب أخرى، بل يستند إلى إيمان عميق، بأنّ الدين لا يمكن ممارسته بحريّة وبأمن وخارج الصراع السياسيّ، من دون إطار مدنيّ للدولة يحمي تنوّعها، ويعزّز فرص التنوّع فيها. بل إنّ حماية التنوّع الدينيّ والمذهبيّ والثقافيّ، والدفاع عن الاختلاف كوسيلة لقاء وتفاعل لا افتراق، سواء أكان في العراق أم في المنطقة، كانا على الدوام من متبنيّات السيستاني.

وإنّ جوهر رؤية السيستاني حول هذه القضيّة، تتعلّق بالعلاقة الحسّاسة بين السياسة والدين، فالسياسة في نظره هي إطار تنظيميّ للدولة، ولأنّها كذلك يجب أن تحرص على حماية التنوّع الثقافيّ في المجتمع وتوفير الظروف المناسبة لحريّة الاختيارات الدينيّة، كشرط لضمان السلم الاجتماعيّ من جهة، وكطريق لممارسة أكثر روحيّة الدين، بعيداً من الدلالات السياسيّة.

– لإقناع السيستاني برفض الحكم المدني، التقى نائب رئيس الجمهورية نوري كامل المالكي، مساء الجمعة، المرجع الديني محمد إسحاق الفياض، في مقر إقامته بالنجف، ليناقشا التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، إضافة إلى ماذا ينتظر العراق في حال تم تأجيل الانتخابات المقبلة. وأضاف المصدر أن “لقاء المالكي بالفياض هو للحفاظ على الحكم الإسلامي في العراق وإقناع المرجعية برفض المشروع المدني المطروح في الساحة”.

– قال عمار الحكيم، رئيس “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي”، (أحد أقطاب التحالف الوطني الشيعي)، مساء اليوم السبت، إن المجتمع العراقي “سئم المذهبية واقتنع بأن مصلحته تكمن في المواطنة”. جاء ذلك في بيان لوزارة الخارجية المصرية، حصلت الأناضول على نسخة منه، صدر عقب لقاء الحكيم ووزير الخارجية المصري، سامح شكري، في العاصمة بغداد الذي يزورها الأخيرة لمدة يوم واحد.

خامساً. الموقف من سقوط المنارة الحدباء في الموصل
منارة جامع النوري المعروفة بالحدباء في محافظة الموصل، هي منارة أثرية يعود تاريخ بناءها الى عام 568هـ/ 1172م في العهد الزنكي. وكان قد ظهر زعيم تنظيم «داعش» الملقب أبو بكر البغدادي وخطب الجمعة في الجامع يوم 6 رمضان 1435 هـ / 4 تموز 2014 م. وفي يوم 25 رمضان 1438 هـ 21 يونيو 2017 م دُمر مسجد النوري ومنارته الحدباء، حيث اتهم تنظيم الدولة الإسلامية عبر وكالة أعماق الإخبارية طيران التحالف الدولى بتدمير المسجد والمنارة، بينما نفى التحالف ذلك. فيما إتهمت الحكومة العراقية داعش بتفجيرها.
وقد تبادلت الإتهامات بين حكومة بغداد وتنظيم داعش، وقد خرج أنصار شيعة السلطة للتقليل من الأهمية التاريخية لتلك المنارة بعبارة واحدة: (انها مجرد أحجار، ولا تساوي شيئا أمام دماء الشهداء). وردّ عليهم النائب فائق الشيخ علي بتغريده مستغرباً ذلك، قائلا: يصلي على حجارة، ويتدافع بمكة لتقبيل الحجارة، وأسد بابل وآثار النمرود والأهرامات التي يزورها حجارة، ويتساءل لماذا تبكون على منارة من حجارة. وقد تناسى شيعة السلطة وأنصارهم تفجير ضريح العسكريين 2006، حيث عمت مظاهر الغضب مدن جنوب ووسط العراق وخرج الآلاف من الشيعة في تظاهرات احتجاجية على تفجير المرقد وخرجت قوات جيش المهدي في مدينة الصدر والسماوة إلى الشوارع وهم يرتدون الملابس السوداء ويحملون الأعلام والرايات ويرددون هتافات منددة بمن وصفوهم بالبعثيين والوهابية والنواصب وكذلك بالاحتلال الأمريكي وكان مقتدى الصدر قد دعا إلى ضبط النفس، وعدم الاعتداء على أي شخص كان، وعدم التعرض لمقدسات الآخرين فيما قامت جماعات مسلحة مجهولة بإحراق مساجد سنية وهدمها وحدثت أعمال قتل عشوائي في العاصمة بغداد والمناطق المجاورة لها حيث تم العثور على رفات 47 مدنياً في حفرة بالقرب من بغداد و أفاد ديوان الوقف السني في العراق ان ما يقرب من 168 مسجداً سنياً تعرض للهجوم وتم قتل 10 أئمة في المساجد وخطف 15 آخرين في بغداد وافادت جهات أمنية ان حصيلة أعمال العنف بعد التفجير قد تتجاوز 100 قتيل، وبالقرب من سامراء قام مسلحون مجهولون بقتل مراسلة قناة العربية أطوار بهجت مع إثنين من المصورين الذين قصدوا المكان لتغطية الأحداث.
إن هذا التلون السياسي والتقلب في المواقف يسرى على معظم سياسيي عراق اليوم، مثل مشعان الجبوري والعشرات الاخرين من النواب، كانت لهم مواقف مناقضة تماما لما هم عليه الان، يصعب على المواطنين فهمها.

وهذا ما حدا بواحد من أفضل أساتذة علم النفس في العراق، ألا وهو الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح الى التصريح بأن “السياسيون العراقيون مرضى نفسيون” وذهب الى القول: ” إن العقل السياسي في الزعامات العراقية مصاب بالبرانويا التي تعني بمصطلحاتنا إسلوبا او شكلا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع شديد وغير منطقي ودائم من الشك وعدم الثقة بالآخر، ونزعة دائمة نحو تفسير أفعال الآخرين على انها تهديد مقصود”.

وردّ عليه د. مهند الحسيني بمقال أكثر صراحة وتوضيحا، جاء فيه: “يجب ان نعرف انه ليس هنالك ما يسمى بسياسيين عراقيين بل مجموعة من الشخصيات المعتلة التي أتى بها الامريكان وقد ترعرعت وفرخت كرؤوس الشياطين ولا استثني منهم أحداً الا الدكتور احمد الجلبي رحمه الله الذي مات كمداً ودليل استثنائي لأحمد ان الامريكان لم يسمحوا له بتسنم اي منصب فيه فائدة للعراق.

في الطب النفسي وعلم النفس هنالك فرق واضح بين من يعاني من اعتلال الشخصية ومن يعاني من مرض نفسي كالذهان والاكتئاب الذي يٌحدِث اشكالاً في وظيفة الذهن والتي يٌنظر اليها بأنها خارج إرادة الشخص المريض نفسياً والذي يقوم بالفعل الخطأ كإيذائه الآخرين او قتلهم. ولهذا السبب فان هؤلاء الأشخاص وبطبيعة جرائمهم يودعون في مصحات نفسية للعلاج شبيه بمستشفيات السجون.

نرجع الأن الى تعريف المجموعة القرقوزية في المنطقة الخضراء والتي تم تعريفها بأنها حكومة عراقية ويتألف أعضاءها من سياسيين ووزراء ودبلوماسيين.

هذه المجموعة من الشخصيات السياسية الطارئة تستحق تشخيص (اعتلال الشخصية او اضطراب الشخصية) وهذا يعني انها مزيج من شخصيات ورثت جينات من شخصيات مضطربة او اكتسبت علل نفسية من خلال المعاناة الحياتية كالتشرد والحرمان والاضطهاد وبعدها الحصول على السلطة مجاناً.

معظم اعراض هذه الشخصيات المعتلة في الحكومة العراقية هي عدائية بسبب السلطة والمال وفي الحالات الشديدة تسمى سايكوباثية اي تنقصها المشاعر والعواطف الانسانية ولا تتردد بالإساءة الى او قتل الآخرين وهنالك نوعان من الشخصية السايكوباثية هي السالبة (passive psychopath) اي الشخصية الجبانة المجرمة والتي تمثل معظم الموجودين في الحكومة العراقية.

الجميع يعرف تأريخ هذه الشخصيات التي كانت مهمشة جبانة مضطهدة وسلبية ولكنها وبصناعة أمريكية إيرانية تمكنت من اكتساب الصفات العدائية والمجرمة بسبب قوة السلطة والخوف من فقدان السلطة والمثال الحي لهذا هو نوري المالكي فلقد كان شيعياً مظلوما وغبياً مؤدباً ومغموراً وعندما تمّكن من السلطة تغير بشكل ساحر وعجيب وأصبح ذئباً مجرماً جباناً”.

وهذا المرض لم يقتصر على طائفة معينة كما أسلفنا، بل تعداها وإنتقلت عدواه الى بقية طوائف أو مكونات الشعب العراقي، وهكذا غدا الاكراد والسنّة والمسيحيّن وغيرهم. وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل.

– الاكراد
وأهم موقف هو موقفهم من البقاء ضمن الدولة العراقية أو الأنفصال عنها، حيث شاركوا السلطة مع الأحزاب القائمة معلنين إختيارهم الطوعي بالبقاء ضمن العراق الفدرالي الموحد، وقد حددوا لاحقا يوم 25 أيلول 2017 موعدا للاستفتاء على الاستقلال.

كما إن أكراد العراق، ومنذ عام 1992 فسحوا المجال لأكراد الدول المجاورة وتنظيماتهم السياسية، ومنها حزب العمال الكردستاني المعروف إختصارا ب(PKK)، ولكنهم في عام 2016 بدءوا يطالبون برحيلهم من سنجار ومناطق كردية في سوريا، في حين انهم كانوا يرسلون قواتهم الى المناطق الكردية في سوريا مثل عين العرب (كوباني) ويَمدونهم بالسلاح.

– السنة
إن جبهة التوافق الوطني وتضم جماعات سنّية قد دافعت عن سوريا ابان دعم الاسد عندما أتهم بدعم تنظيم القاعدة وانشاء ممر أمن للإرهابيين، لكنها انقلبت على بشار بعد ان انقلب الخليج ضدها. إن مثل هذه المواقف تفسر سقوط العديد من المحافظات السنية بيد التنظيمات الأرهابية نكاية بالحكم الشيعي، ثم أصبحوا يتشكّون من ظلم تلك التنظيمات.

والواقع إن إهتمام ممثلي السنّة قد إنصب على إحتفاظهم بالسلطة أو جزء منها أكثر من حفاظهم على مجتمعاتهم ومساهمتهم الحضارية. ولهذا فقد حصلوا على مناصب مثل نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء وعدد من الوزارات والقاعد البرلمانية مقابل تدمير محافظاتهم ومدنهم وتشريد أهلها وتحطيم بقايا تراثهم، كما حدث في سقوط الموصل، وتدمير جامعتها ومكتبتها، وأخيرا تفجير منارتها الشهيرة بالحدباء في 21/6/2017.

– المسيحيون
من بين أهم القضايا التي شهدت عدم ثبات موقف المسيحيّن العراقيين، هي:

– إشكالية التسمية
واحدة من أهم المسائل التي شهدت تقلبا كبيرا. ففي عام 1970 إرتضى مسيحيو العراق بتسمية (الناطقين بالسريانية) وفقا للقانون. وفي 1992 إتخذ الكثيرين تسمية (الأشوريين) بعد ظهور الحركة الديمقراطية الاشورية في المنطقة الأمنة شمال العراق، ثم إتخذ البعض منهم عام 2002 تسمية (الكلدان) بعد تأسيس المركز الثقافي الكلداني، وضمن هذا السياق نشأت أحزاب وتنظيمات كلدانية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني، والرابطة الكلدانية، وكانت قد ظهرت تسمية توفيقية عام 2005 تجمع كل التسميات فظهر المجلس الشعبي الكلداني-السرياني-الاشوري، وأخيرا يسعى معظمهم الى إعتماد تسمية (المكون المسيحي). والواقع، إن من كانوا يعدون أنفسهم أشوريين تحولوا الى الكلدان عند إنشاء تنظيمات كلدانية، وهم اليوم من أكثر المدافعين عن المصطلح الجديد.

– مشاركة الكنيسة في السياسة
(لا يمكن لمؤسسة كنسية بحجم الكنيسة الكلدانية ومسؤوليتها ان تزج نفسها في العمل القومي والسياسي على حساب رسالتها هذان المجالان من اختصاص العلمانيين).

لاحقا، “وأعتبر البطريرك الكلداني وجود خمسة فصائل مسلحة مسيحية، ثلاثة منها ضمن الحشد الشعبي وواحد تحت لواء حزب البارتي وأخر مع الاتحاد الوطني الكردستاني دليل على أنشطار الموقف المسيحي في العراق ولا وجود لمرجعية سياسية حقيقية تمثله مما دفع بالكنيسة لسد هذا الفراغ”.

ويثور التساؤل ما الذي يدفع المرء الى التقلب في مواقفه؟

أسلفنا القول الى إن المصلحة الشخصية والأنية هي الأساس الذي تدفع أي شخص أو جهة للتقلب. ويضاف الى هذا العامل الأساس، عامل أخر هو ضغط الدول وتدخلها في شؤون العراق، ودفعها بإتجاه معين. خاصة وإن سفراء الدول الأجنبية تلتقي بالكثير من المواطنين وتوجههم كما تريد، وتنفق عليهم لتحقيق ذلك الغرض. وقد مارست أحزاب لسلطة نفس الأسلوب، فشجعت أخرين على إنشاء أحزاب هزيلة لمصلحة معينة. كما تعقد المؤتمرات الدولية لغرض دعم جماعة ضد أخرى.

وقبل قرن قال السياسي البريطاني تشرشل: إذا مات العرب تموت الخيانة.

خلاصة وإستنتاجات:

يجب إدراك إن التخلف سلاح ذو حدين، وإن التخريب والفوضى مهما بدت ممتعة ومفيدة للوهلة الاولى إلا إن نتائجها كارثية لاحقا. وهذا يشبه حال الطلبة عندما يتغيب الأستاذ، فإن فرحتهم المؤقتة سترتد عليهم حزنا لاحقاً للخسارة.

إن طبقة المتقلبين التي تظهر بوضوح وتنتشر بسرعة كما في مثال الطلبة في أعلاه، إنما هي السبب في إشاعة الفوضى وإفتقاد النظرة العقلية الصحيحة والراسخة.

وكما أسلفنا فإن الثبات والاستقرار هو عماد المجتمع ونعمة الصحة فيه، وبضياع ذلك الاستقرار يدل أي بلد أو مجتمع في دوامة الفوضى والعنف والضياع. ومن أعراض حالة عدم الاستقرار، هي: –

1. فقدان الأمن.
2. إنتشار الفساد.
3. تقويض الديمقراطية.
4. فقدان سيادة القانون.
5. إنتهاك حقوق الانسان.
6. عدم حماية الأقليات.
7. ظهور اللأجئين والنازحين.
8. ضرب الكفاءات وإقصاءها.
9. تعرض التنمية للخطر.
10. إنهيار مؤسسات الدولة.
إن الثبات ضرورة كبيرة للعراق على الأقل في الوقت الحاضر لحين وضع الأسس الصحيحة للدولة والمجتمع. وهذا يتطلب تغيير إسلوب المجتمع وتوعيته لما هو أفضل على المدى البعيد. وقد صدق ما ذهب اليه الشاعر السوري أدونيس الى إن المسلمون لم يقدموا شيء للحضارة لأنهم ركزوا على تغيير السلطة لا تغيير المجتمع. يجب أن نواجه ذواتنا وأن ننتقد أخطاءنا واخطاء اجدادنا، وان نفصل بين زماننا وزمانهم. وأن نرتقي بفلسفة جديدة تستند لبناء المجتمعات والانسان لا أن نستنسخ الماضي وندور في فلكه كثور الطاحونة.

إن واحدة من أكثر العوامل المسببة للتقلب لدى المجتمعات هو السلطة. فالسلطة الضعيفة تكون دائما متقلبة وغير ثابتة في مواقفها، وهي عامل أساسي لقلب المجتمع وعدم ثباته وإستقراره، كما إن عدم إعطاء الأفراد حقوقهم يدفعهم الى التحرك كخلية منفلقة لا تعرف أين تتوجه. وبالمقابل، فإن السلطة القوية تعطي إستقرارا للمجتمع وأفراده، لأنها تحدد لهم توجهاتهم. ويمكن الاستشهاد بإستقرار المجتمعات الإسلامية في عصورها الأولى -رغم استخدامها القوة- بحيث جعلت المواطنة على بينة من أمره، فإما أن يكون مسلماً أو يكون من أهل الذمة ويدفع الجزية. وكذلك الأمر في زمن حكم حزب البعث في العراق، حيث كان على العراقي إما أن يصبح بعثياً أو أن يبقى مستقلاً وبذلك يخسر الأمتيازات التي تمنح للفئة الأولى. لذلك رأينا إن البعثيون كانوا أول من إنتقل الى الحكم الإسلامي رغم التعارض الأيديولوجي بين أفكاره السابقة واللاحقة. وبقي المستقلون ثابتون في مواقفهم في النظامين المتعارضين. وهذا ما جعل الكثيرين من العراقيين الى إختصار هذا التقلب بعبارة: (كل ما شهده العراق هو تغير صيغة نداء المسؤولين من رفيقي الى مولاي).

إن مسألة الثبات في المواقف شبيه الى حد كبير تمسك المرأة بشرفها، وبالتالي إن هذا الموقف يسبب لها خسارة الاستمتاع الذي تحصل عليه الأخريات من غير المتمسكات بشرفهن. وإن كل ما تحصل عليه الشريفة هو الاحترام والتقدير المعنوي. وقد ثمنتها الأديان بقولها: اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلِئَ.

من المؤكد إن الظروف التي مرّ ويمر بها العراق منذ 1980، والحروب التي خاضها هي ظروف قاسية جداً، وجاء الفساد ليكمل الخراب، ولكن علينا أن نتذكر إن الدول لا تبنى بالأمنيات، بل بالتضحيات والعلم.