22 ديسمبر، 2024 2:30 م

المُبرز الجمالي في قصائد بشرى البستاني

المُبرز الجمالي في قصائد بشرى البستاني

عمدت البستاني لتضمين قصائدها الخيال والحاضر واللامعقول
وظفت المتناقضات في شعرها لتضفي مزيدا من الجمالية على أبياتها
ربما تأخذ هذه الدراسة شكل أو قالب النقد، نعم هي تصنف بإنها ” مقالة نقد” لكن وفق المنظور الذي سبق وأن دعى له الكاتب في كتابه الذي حمل عنوان ( خفايا النص)، وقال عنه الأستاذ الصحفي ضياء الباني بأنه يشكل ( ثورة على ما كان من مدارس النقد القديمة)، فأنا لا أحبذ الصيغ الجامدة ، والقوالب المفروضة، والتوصيفات القديمة التي تمتاز بها مدارس النقد وصوره وأبوابه وتفسيراته.حان الوقت لثورة عارمة على المصطلح النقدي القديم ، وتكريس مفاهيم وصور وقوالب جديدة تتناسب وما نعيشه من تغير في مفاصل الحياة المختلفة والتي طغت عليها الآلة والتكنلوجيا.
وهنا لابد أن نؤكد بأن الصورة التي يبني عليها الشاعر تفاصيل قصيدته وبدقة ،ترتكز على “المبرز الجمالي” ، وهو الذي يحدد القيمة الجمالية للقصيدة بشكلها النهائي، رغم ما في أبياتها من جمالية النغم والكلمة، إلا أن “المبرز الجمالي” قادر إن تم توظيفه بصورة متقنة أن يأخذ القصيدة إلى النتشار و الخلود.
كما في توظيف الخالد الراحل شاعر العرب الأكبر عبد الرزاق عبد الواحد حين قال في قصيدته ( سفر التكوين) :
هوَ العراقُ..سَليلُ المَجدِ والحَسَبِ
هوَ الذي كلُّ مَن فيهِ حَفيدُ نَبي !

من هذا المدخل وددت أن أذهب إلى تفاصيل ما قرأت نحو الصور الرائعة التي رسمتها الدكتورة الشاعرة بشرى البستاني والتي تجسدت في تناقض جميل بل رائع مزجت فيه مابين التخيل واللاواقع، بين الحاضر واللامعقول، فكيف يتسنى للقاء على مائدة الحب أن يكون طرفاه غريبين، والأدهى بينهما “عذول” ، صورة لايتخيلها القارئ، وُشحت بالامعقول لكنها واقعية.
كيف رسمت الشاعرة صورة واقعية بخيال اللامعقول، وكيف حملت كلماتها تلك الدلالات المعبرة عن واقع يرفضه العقل،لكنها جسدت حدثا مكتمل العناصر في مساحة بيتين لا أكثر تفر منه الروح ولايتحمله الخيال.
مائدة حملت توصيف الحب، اجتمع عليها ضدان ، طرف تمثل بالحبيبين، وهذا منطق، والطرف الأخر هو ( العذول)، الذي جعل وجوده هناك فيض من المشاعر الرافضة ، لكنه موجود ، ولغاية في نفس الشاعر كما يقال ، استوحت مشهد ( القهوة المرة) ووصفت مكانها تحديداً ما بينهما، وهنا اكتملت صورة المشهد الأول من القصيدة الذي حمل ثلاثة عناصر أخرها (القهوة المرة) التي اسدلت الستارة على نهاية المشهد ، حين لم يَعرف من تجمعوا على الطاولة بعضهم البعض بمشهد يفيض دهشة واستغراب ( يحدق كل بصاحبه ..اهو هذا؟).
الدهشة التي ضمنتها البستاني مدخل قصيدتها (جروح الأرض) كانت أشد وطأة على الحبيبين، لكن الصورة الثانية في المشهد العام كانت تشي بفيض من النشوة ، إن رسمنا في مخيلتنا صورة ” العذول” الذي جاءت به الشاعرة استكمالاً للمعنى ، فحمل وجوده جمالية فوق ما كنا نتصور في تراتيب التوصيف الداخلي للوحة مكتملة العناصر ، والتي سطرت حروفها البستاني بإتقان تام لتبهر القارئ بمدخل فذ يوحي بعمق ما كتبت من نص غاية في الجمال والروعة.
حول مائدة الحب كنا غريبين
ما بيننا قهوة مرة
وعذول
يحدق كل بصاحبه ..
اهو هذا؟
الأثر الذي سيخلفه مدخل القصيدة على القارئ سيكون ثقيلاً طويل التأثير في المشاعر ، لايخرج من توصيف الوجداني،الذي امتازت به الشاعرة بدقة ما جاءت به من مفردات دالة ، ثم تجسيدها لمشاهد الحدث بين براعة استخدام اللغة في رسم الصورة الشعرية التي تمتاز بالمتعة والتأثير العاصف في المتلقي. ما يخلق حميمية يستشعرها القارئ في شعر البستاني ، وكأنما توجه نصها الشعري إليه دون عن غيره.
أصابعُ باردةٌ ،
ليلةٌ شاحبةْ..
والرياح تجئ بنايٍ غريقٍ
ومختنقٌ صوت آخر سربِ اليمامْ
تداري الغصونُ انطفاءاتها
وتخاتلُ أجفانها نجمةٌ خائفهْ
على دمعةٍ واجفهْ
وتكسر أرجوحةٌ ساعديها
وتسقط فوق الحصى ميّتهْ
هذا النمط من الكتابة يوحي بقدرة ايحائية تعكس صدق التجربة وعمق المشاعر التي تعبر عنها القصيدة، ماينم عن قدرة على تشكيل معان السرد وفق اصول البناء التكويني للعمل الفني بشكله العام.
غريبين كنّا ..
على شاطئ الكون منفرديْنِ
وما بيننا الجرح ينزفُ
ما بيننا مطرٌ باردٌ ..

جاءت البستاني بالوصف كمرتكز دلالي لأبياتها، واستنطقت الحروف بفيض المعنى ، حتى يشعر القارئ بدهشة السؤال، (ماتت الأسئلة) ، (ماتت اللهفة المشعلة)، وهنا تفتح البستاني أبواب التخيل في عقل القارئ ليذهب بعيداً في تساؤلاته ليقف على لا جواب ( كيف ماتت) ، وهل الأسئلة تموت ، وهل الهفة مثلها تموت أم تنطفئ.
تراتيبية غاية في الدقة توردها الدكتورة بشرى، تأخذ حيناً صيغة السؤال، في حين تستخدمها جواب بصورة من المبهم لتورد تفسيراً لما قصدته من توظيف الغموض في ثنايا النص الشعري، ( غريبين كنا ، على شاطئ الكون منفردين)، وثم تساؤل يحيط بتكوين البيتين السابقين أجد فيه من الغرابة ما يثير لدي الشك حول توظيفها بهذا المعنى ، فما الذي يجمع (غريبين ومنفردين على شاطئ الكون يربطهما جرح ينزف ن ومطر بارد)، توظيف البستاني لتلك المتناقضات أظهرت ما اسميناه ” المبرز الجمالي” للقصيدةن والذي اضفى على صورها التكوينية براعة في الوصف الذي استخدمته الدكتورة بشرى، فجاءت بحق بتناقضات أدهشت القارئ ، واظهرت براعتها في توظيف الوصف الذي شكل طابع القصيدة عامة.
ماتت الأسئلة ْ
ماتت اللهفة المُشعِلة ْ
جروح الخيانة صامتةٌ
من تُرى كان أولَ من خان صاحبهُ
من تُرى المُستريبُ
من القاتلُ
ومن الجثةُ الهامدةْ
على ساعدينا مكوّمةٌ
باردة
وجنةُ الأرض مجروحةٌ
والرياحُ تؤرجحُ وردتها الذاوية ..
كل الصور الشعرية التي يجسدها الشعراء في قصائدهم تنم عن دلالة وصفية تنتج عن علاقة ذهنية مترابطة ووثيقة بتجربة الشاعر والتي يعبر عنها بصورة متقنة ، من هنا خرجت علينا الشاعرة اتورد الوصف بجمالية رائعة أبدعت فيها ، حين استخدمته في أبياتها لوصف حالة معينة ( على شاطئ الكون، وجنة الأرض مجروحة، جروح الخيانة صامتة) أو لوصف المكان.
كل الحديث عن ما ينشأ من علاقة الصورة بالواقع ناتج عن ثقافة الاديب، أو الشاعر إن صح ،لتنقل واقعا انتج رسمها بدلالتها الإنسانية. ومنها عمدت البستاني لاستخدام الاستعارة والمجاز ، ووظفت ما بذاكرتها الشعرية من صور تعتمد التشبيه.
عناقيدُ وردٍ تغادر أحداقنا
وسقوف المنى تتكسّرُ
تذوي شواطئها
الجَزْرُ عرّى مرافئها
غادر السمكَ الميْتَ منكفئاً في جوانبها
وخيامُ القبائل بعثرها آخر الموج
ثم مضى ..
فلماذا ..
هجر المّدُ بحرَ غوايتنا
وانكفأنا على الجرح مغتربينَ عطاشى
لماذا ..
لماذا ..!
فيض من المشاعر جاءت به الدكتورة بشرى جعلت من جو القصيدة مشحوناً بتخيلات لاحدود لها، كرست المتناقضات من خلالها لتوهم القارئ بأن الصور التي جاءت بها حقيقية، والواقع إنها وظفت التشبيه كصفة اساسية لعملها الفني، ما أضفى على منتجها الأدبي مزيداً من الجمالية المتقنة التي تدخله في توصيف ” المنجز الجمالي”.
ولم تختلف بشرى البستاني في توظيفها للصورة الشعرية بإختلاف قصائها ، بل عمدت لثبات الرؤية الفنية في منجزها على اختلافه لتوحيد الرؤية المكفولة بدقة إيراد الوصف وباكتمال المعنى، ودقة استخدام عناصر البناء الفني للقصيدة، فالإبداع دائما ما يحرك الأحاسيس نحو المنتج الثقافي.
بشرى البستاني تكتب بصيغة المنجز الإبداعي، ولاتقف عند حدود معينة ، بل تذهب برشاقة أبياتها نحو اكتمال المعنى ، وجمالية التوصيف ،والتعبير بإحساس صادق عما تريد ايصاله لقرائها،باختصار أرى أن بشرى البستاني تعبر عن معنى القصيدة وتأثيراتها الحسية بتكثيف ودقة الوصف وبإحساس رائع.
ابصر في منتصف الليل
البحر يجئ لشرفة بيتي
وارى الأمواج
تنداح على غرفة نومي
أفتح شباكي
وارى السمك الميت يطفو
بشري البستاني شاعرة وناقدة وصحافية عراقية، لها العديد من المؤلفات منها:
ما بعد الحزن، بيروت، النهضة 1973،الاغنية والسكين، بغداد، 1975،أنا والاسوار، جامعة الموصل، 1977،زهر الحدائق، بغداد 1983.أقبّل كف العراق،ة بغداد 1988،البحر يصطاد الضفاف، بغداد 2000،
مكابدات الشجر، بغداد 2002 وغيرها الكثير .