(أبو مليكة) الشاعر المعروف بالحطيئة، حفظ له التأريخ واقعة عاشها في حقبة من حياته، سجل فيها موقفا بقي شاخصا أمام الأجيال -وسيبقى كذلك- دالا على قيمة عليا من قيم الإنسانية، تلك القيم التي من المفترض أن تبقى ملازمة للإنسان في الأزمان كلها، والأماكن جميعها، والظروف باشكالها رغم المتغيرات والمستجدات، فهي ثوابت لايمكن إهمالها وترك التحلي بها، إذ بغيرها يسقط ركن هام من معاني الإنسانية، ويستحيل الإنسان دونها الى مخلوق لايتميز عن باقي الدواب والمخلوقات.
فلقد روي أن (ابو مليكة)، عزم يوما على الرحيل، هاجرا زوجته وبناته الى حيث لايعلم موعدا لرجوعه، فأمر خادمَيه بإحضار حصانه وتجهيز معدات سفره البعيد، ولما حانت ساعة الرحيل نادى زوجته وقال لها:
عدى السنين لغيبتي وتصبري ودعي الشهور فإنهن قصار
قاصدا بهذا إعلامها أن سفره طويل لاترجى منه عودة، ورجل مثل الحطيئة من غير المعقول أن يتخذ قرارا إلا بعد تعقل وروية وإدراك تام لأبعاد ما يقرره. غير أن رد زوجته لما هو عازم عليه، كان أكثر تعقلا وأشد وقعا وأٌقوى تأثيرا، إذ قالت له:
اذكر صبابتنا إليك وشوقنا وارحم بناتك إنهن صغار
فما كان من الحطيئة إلا أن التفت الى خادمَيه قائلا:
حطوا الرحال ما عملت لسفر أبدا..!
إذن، هو سبب لا أكثر، غيّر قرارا كان قد اتخذ سابقا، وهو دافع قلب موازين عديدة كانت قد حُددت مسبقا، وهي أيضا ذريعة مقنعة هانت أمامها العزائم وتلاشى معها الاعتداد بالرأي، يقابل هذا كله الرحمة والرأفة والمروءة مجتمعة، فكان الناتج ثمرة نضرة بفعل ناضج، درأ كثيرا من المساوئ، وأبعد كمّا هائلا من السلبيات، ومنع تداعيات كان ممكنا حصولها، لولا حكمة النسبة والتناسب، والحساب الآني بين الأضرار والمنافع التي يتمخض عنها قرار صاحبنا الحطيئة برحيله.
ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر -وليس شرطا أن يجاريه ويشابهه- ففي مقارنة بين (ابو مليكة) وبين ما عليه أصحاب القرار اليوم في عراقنا الجديد -ولعل الجديد اليوم تفرع بدوره الى جديد مجرب وجديد غير مجرب، والإثنان على مايبدو يتبنون القرارات المجارية لمصالح شخصية او فئوية او عشائرية او مناطقية او طائفية، وأحيانا إقليمية لمن هم عبدة جهات قابعة خلف حدود العراق، بل أن بعضهم تجتمع في نياته ومخططاته هذه المصالح بمجملها دفعة واحدة- أقول من باب المقارنة بين ما عليه هؤلاء من إصرار على نهجهم الأهوج في إدارة البلاد بمفاصلها جميعا، وبين تراجع الحطيئة عن قراره، أرى أن البون شاسع، وما وصلت اليه البلاد من تدنيات شملت كل أركانها من جراء إصرارهم على أخطائهم خير دليل على ماأرى. إذ لطالما سمعنا ان الاعتراف بالخطأ فضيلة، فيما يتصرف ساسة البلد عكس هذا تماما، فليس فيهم خطاؤون، وإن وجد فليس من بينهم توابون، وقد تمادوا في تعنتهم وعنجهيتهم بسياساتهم الإدارية ولاسيما القيادية منها، وهذا ينطبق على المجرب وغير المجرب طبعا، إذ الأول أثبته، والثاني سيتبعه حتما، و “حتما” هذه أتت وفق مثلنا القائل: (الميت ميتي واعرفه شلون مشعول صفحة).
أذكر بديهة كنا قد تعلمناها منذ الصغر، هي أن من يروم تغيير نتيجة وصلها، عليه تغيير السبل التي اتبعها، والخطوات التي اتخذها للوصول إليها، ومن دون هذين الشرطين سيظل مآله الى النتيجة ذاتها، فيكون ديدنه هذا كديدن من ذكره شاعر الأبوذية حين قال:
ثلاثه اريام فوگ جبال يرعن
رعن گلبي وبدن بحشاي يرعن
لاتكرب وره المكروب يا ارعن
ولاتطرد سراب بغير ميه
وكما يقولون: (المايشوف بالمنخل من عمه العماه) و (الكتاب مقروء من عنوانه).. إن المناهج والسياسات المتبعة تشريعا وتنفيذا، في السنوات الماضية لم تأتِ أكلها على يد المجلسين الحاليين، وأكاد أبت -وابصم بالعشرة- أن أكلها ستكون “زقوما وغسلينا” على يد المرشحين الفائزين فوزا عظيما في قادم السنين.
[email protected]