23 ديسمبر، 2024 3:30 م

الموقف الفلسفي من الحرب والسلام عند الفلاسفة اليونان والعرب المسلمين

الموقف الفلسفي من الحرب والسلام عند الفلاسفة اليونان والعرب المسلمين

أصل المشروع، هو ورشة عمل عقدت على هامش المؤتمر العالمي الذي عقدته اليونسكو في رباط المغرب، والذي يسمى باليوم العالمي للفلسفة، إذ تم تعيين مجموعة من ورش العمل الفلسفي، وكانت حصتي مع مجموعة من الفلاسفة من أمريكا والهند وكمبوديا والصين والجزائر والمغرب، هي ورشة دور الفلاسفة في الحرب والسلام. وكانت مهمتي هي البحث في موقف الفلاسفة العرب المسلمين من الحرب والسلام، مع بيان موقف الفلاسفة اليونانيين بشكل أولي، ولربما ستنحصر هذه الورقة في هذا الإطار، مع إشارة لتحديد معنى الحرب في اللغة والاصطلاح.
فالحرب لغة مؤنث، ولربما تذكر، والجمع حروب، ويحددها اللغويون بعدة معاني منها: سلب المال، اشتداد الغضب، القتال، أو القتال بين فئتين، أو القتال بين البشر بعضهم البعض أو القتال الذي تقوم بها جيوش غير منظمة، وغير ذلك من معاني تدخل تحت هذا المفهوم.
أما أهل السياسة فيحددون الحرب، أنها نقيض السلم، فيقال وقعت بينهم حرب، لأنهم ذهبوا بها إلى المحاربة، بخلاف السلم الذي يذهب إلى المسالمة، فيقال دار حرب، ويقصد بها عند المسلمين، بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين.
والحرب بعامة حالة صراع بين كيانات سياسية عادة، وتشن الحروب من أجل تحقيق الأهداف بالقوة، ويتباين التعريف القانوني لحالة الحرب من مجتمع إلى آخر.
في حين يحدد الاصطلاحيون العسكريون الحرب على أنها شكل من أشكال العلاقات الدولية، يستخدم فيها الصراع المسلح، فضلاً عن أدوات أخرى من أدوات السياسة، وبمعنى أوسع وأشمل  الحرب هي استخدام القوة بين جماعتين من البشر تخضعان لنظامين متعارضين لهما مصالح متعارضة.
أما الفلاسفة: فإنا لا نجد في قواميسهم الفلسفية إشارة من قريب إلى تحديد المعنى الاصطلاحي للحرب أو السلم، مع العلم أن موضوع الحرب عندهم يدخل في باب الحديث عن السياسة وبناء المدن الفاضلة وخصال رئيس المدينة الفاضلة.
والحرب على أشكال وأنواع، منها: الحرب الأهلية Civil War، وتعني نشوب أعمال مسلحة بين مجموعتين كبيرتين نسبياً، في دولة ما تمتلك كل منهما تنظيماً سياسياً ويتنافسان عادة على حق الحكم في المجتمع أو حق إحدى المجموعتين المتحاربتين في الانفصال، ومن الأمثلة على ذلك، الحرب الأهلية في الولايات المتحدة عام 1861ـ1865، والحرب الأهلية التي أعقبت الثورة الروسية عام 1917، والحروب الأهلية في أفريقيا، ومنها: الحرب الطبقية، والحرب القومية، والحرب العشائرية، والحرب الطائفية، والحرب الدينية، التي تبغي نشر عقيدتها الدينية السماوية بواسطة الحرب المقدسة وتسمى في الإسلام بالجهاد Holly War، وهذا النوع الأخير من الحرب يسمى عند المنادين به بالحرب العادلة، وهناك الحروب غير العادلة أو الظالمة كما يسميها أهل الاختصاص من رجال القانون والسياسة والفكر.
والحرب نقيض السلم، وهي تقوم حين ينتهي دور المجموعات البشرية المتناحرة في الوصول إلى حالة ترضي الطرفين أو الأطراف المتناحرة بصدد المشكلات التي سببت هذا التناحر، ولهذا فالحرب ينادى عليها بعد غياب لغة الحوار والتفاهم. فالحرب هي نهاية الحوار.
أما السلم فعلى النقيض من الحرب، فهو غياب النزاع المسلح بين الأطراف، وهو يتضمن قيم أخلاقية وقانونية تحدد طبيعته منها العدالة والحرية وحق العيش المشترك وما شاكل ذلك.
وإذا ما جئنا لأصل الموضوع نجد أن الفلاسفة باعتبارهم منتجو نص فلسفي تأملي عقلي أخلاقي قيمي، التفتوا بدورهم إلى مسألة الحرب والسلم، وربطوا ذلك بالقيم الأخلاقية من عدالة وحق وخير وفضيلة وما شابهها، لأن خطابهم موجه بالأصل إلى الإنسان الذي لا يقوم الاجتماع المدني والسياسي بدونه، ولا هو كذلك، فلابد من وضع ضوابط قانونية وشرعية تضبط حالة الإنسان وعلاقته بأخيه الإنسان الذي يعيش معه في محلة واحدة ومدينة واحدة ودولة واحدة وأمة واحدة وإنسانية واحدة.
وبما أن الإنسان اجتماعي بالطبع، وبما أنه يتألف من نفس أو روح وجسد، وبما أن العلاقة بين النفس والجسد علاقة تنافر وتضاد كما أوضح ذلك أفلاطون في محاورته فيدون في خلود النفس، إذاً لابد من أيجاد تناغم وانسجام بينهما، لأن سيطرة النفس على الجسد تجعله فاضلاً وبالعكس تجعله شريراً وغير فاضل. لأن الفلاسفة منهم من يعتقد أن الإنسان خير بطبعه، وأن الارتماء بأحضان الجسد ومتطلباته تجعله إنساناً شريرا بهيمياً لا يشبع من شهواته ومن شهوة السيطرة والاعتداء على الآخرين وأخذ ما يملكون بالقوة، ومن هنا يبدأ التأسيس للحرب بأبسط صورها، وهناك من يعتقد من الفلاسفة أن الإنسان شرير بطبعه، وذئب لأخيه الإنسان، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة ابن خلدون وتوماس هوبز، ولهذا نجد الأديان السماوية والفلسفات وطرائق التربية المتعددة والشرائع  والقوانين التي شرعت ووضعت والأعراف، إنما جاءت كلها لتحد من شرور وآثام هذا الإنسان، والفطرة التي فطر عليها.
فقضية الحرب إذن مرتبطة بجانب أخلاقي قانوني شرعي مرده الإنسان نفسه، بعدِّ أن الإنسان يصمم أشيائه عقلياً وروحياً وعاطفياً وغريزياً، ومن هذا الأشياء التي يصممها ويخطط لها بدقة مسألة الحرب والسلم، فهو على خلاف الحيوانات التي تتبع غرائزها في القتال وجني الطعام.
ولهذا نجد في تاريخ الفلسفة أول إشارة للفظ الحرب وردت في نصوص  الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي مجد الحرب في كتاب له بعنوان (جدل الحب والحرب) ، ويقصد هنا بالحب السلام، أما الحرب فهي التغير المستمر في الأشياء بلا توقف أو سكون، ولان الحب هو الذي يجمع ويؤلف بين الأشياء، والكره هو الذي يفرق نجد الفيلسوف اليوناني أنباذوقليس هو الآخر قد جعل من هذين المفهومين مبادئ أساسية تجمع بين العناصر الأربعة أو تفرق بينها ، وكأن الحرب هي التفريق والحب والسلام هو الجمع والتقريب.
أما أفلاطون فقد أشار في محاوراته المتعددة ولاسيما الجمهورية والقوانين وغيرها من المحاورات إلى مسألتي الحرب والسلم، إذ أشار في الجمهورية إلى كيفية بناء المدينة المثالية الخالية من التناقض والقائمة على العدالة والخير، والتي يعمل فيها الإنسان حسب طاقته ومؤهلاته، فضلاً عن بناء نظام تربوي صارم يشب ويهذب الإنسان من الشرور ويقربه من الخير والعدالة والفضيلة، لبناء هذه المدينة المثالية، فيشير أفلاطون إلى أن هذه المدينة هي نموذج خاص ووحيد للأخلاق والعدالة والفضيلة لأن فئاتها بعامة تعرف ماذا تريد وتفعل، وهذه الفئات هي فئة الحرفيين وفئة الحراس وفئة الحكام، ولأنها دولة مثالية فهي تنظر إلى كل الدول أو المدن المجاورة لها على أنها مدن غير فاضلة وليس فيها عدالة، مما يستلزم كما يشير أفلاطون إلى إرسال رسل لهذه الدول تخبرهم بما في دولته من خير وعدالة، وما عليهم إلا أن ينصاعوا، وإلا فالحرب عليهم هي الخيار لتطبيق الحق والعدالة والفضيلة ، وهذا النوع من الحروب كما يرى أفلاطون هي الحروب العادلة وليس الظالمة. فلا خيار للأمم سوى الانضمام إلى الدولة الفاضلة.
أما أرسطو فقد أشار في كتابيه السياسيات والأخلاق إلى الحرب والسلم، وإن كان قد ذهب على خلاف أستاذه أفلاطون، ان قرر حق تقرير المصير للأمم والشعوب باختيار شكل الحكم ونوع النظام السياسي، فإذا ما اختاروا الديمقراطية أو الديكتاتورية أو الارستقراطية فهذه حق لهم، كما أباح قيام الثورة في المجتمع متى ما أحست طبقة من طبقاتهم بظلم طبقة أخرى لها، فهو مع حق تقرير المصير، وإن كان يرى أن النظام المثالي في الدولة المثلى هو الذي يجمع بين الأرستقراطية والديمقراطية.
أما فلاسفتنا العرب المسلمين فقد اهتموا بموضوع الحرب والسلم، وعلى رأس هؤلاء الفارابي، إذ ترك مجموعة آراء في ذلك ولا سيما في كتبه السياسة المدنية وتحصيل السعادة وتلخيص النواميس وفصول منتزع، إذ يحدد الفارابي الحرب بقوله: دفع عدو ورد المدينة من خارج، أو اكتساب خير تستأهله المدينة من خارج ممن في يده ذلك، معتقداً ان الحرب تسبب الخراب والدمار، في مقابل مدينة فاضلة يدعوا لها يكون رئيسها فيلسوف أو نبي، ولهذا أهمل الفارابي في مدينته الفاضلة ذكر الجند ومكانتهم، إذ اعتبرهم سبب خراب المدينة أو الدولة لأنهم يتحلون إلى ذئاب تنهش بالناس وتقتلهم، فحصر اهتمامه بالمجتمع والرئيس. ولكن من جهة أخرى يرى الفارابي ان رئيس المدينة يجب ان يباشر المهام الحربية بنفسه، وان الحرب هي من أعظم أسباب المدن.
ويبيح الفارابي الحرب إذا كانت لدفع ضرر عن المدينة أو الدولة، أو عدوان خارجي، أو في حالة الجهاد لنشر الدعوة، لان أسباب الحرب لا تقوم إلا على الغلبة، أو لشفاء غيظ أو لذة ينالها لا شيء آخر، ولهذا فالحروب عند الفارابي على نوعين: عادلة وظالمة (جور).
أما ابن رشد، فقد أشار في كتابه تلخيص السياسة، لموضوعة الحرب، ففي المقالة الأولى من الكتاب وعند حديثه عن طرائق التربية في المدينة الفاضلة ولا سيما للحراس أو الجند الذين سيبلغون مرتبة الرئاسة، أشار إلى أن الحرب على أنواع، منها ما يجري بين فئات المدينة الواحدة وهذا يسمى بالفتنة أو البغي، أما إذا جرى مع خارج المدينة فهذا يعتبر جهاداً، وهو من النوع المباح لنشر العقيدة الدينية وهو ما حدث بين العرب زمن الرسالة والأمم الأخرى من فرس وروم، ولكن يقف طويلاً أمام مسألة أخلاقية تتبعها الأمم في الحروب، وهي مسألة قطع الأشجار وهدم البيوت وغير ذلك، فيقول أن أفلاطون قد أباح للجند فعل ذلك أمام أعداءهم، ولكن في شريعة الإسلام هناك ضوابط تضبط هذه المسألة لا نوافق أفلاطون عليها. والحرب عند ابن رشد على نوعين هي حرب لرد عدو، وحرب لنشر فكرة أو مبدأ، وكلاهما بنظره حروب عادلة. لأنه يتحدث هنا عن وجود دولة فاضلة أخلاقيا ودينياً وسياسياً.
أما ابن خلدون فقد أشار في المقدمة إلى موضوعة الحرب، وقد تناولها بتفصيل وربط ذلك بأصل الجبلة الإنسانية التي فطر عليها، قائلا: أنها من الأمور الطبيعية في حياة البشر منذ ان خلقها الله. وان الحرب عنده كما هي عند من سبقه مباحة في حالة العدوان ودفع الضرر. ولا تقوم إلا في حالة العدوان الخارجي، أو في حالة الغضب لله بدينه، وهذا ما يسمى في الشريعة بالجهاد، وإذا ما وقع عدوان داخلي أو فتنة فإن مرده إلى طبيعة النفس الإنسانية التي جبل عليها مشايخ القوم وكبرائهم لما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة، وان العدوان والحرب إنما يقع بين الأمم المتوحشة لأنهم وضعوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيها بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن إمتاعه أذنوا بالحرب. والحرب عنده على نوعين: حرب جهاد وعدل وحرب فتنة وبغي.
وعلى وفق رأي كاتب هذه السطور أن الحرب لا تعد قانوناً جوهريا في سلوك البشر في علاقاتهم بعضهم البعض، وإنما هي حالة عرضية أسبابها عدوان خارجي أو فتنة داخلية أو غلبة سياسية أو غير ذلك، وتنتهي الحرب بانتهاء أسبابها التي قامت من أجلها وهي السيطرة على أموال وأراضي الغير بالقوة المسلحة، وقد قسم الفلاسفة الحرب إلى نوعين أساسيين هما الحرب العادلة وهذه مباحة عندهم إن كانت لأسباب أخلاقية ودينية ومبدئية لمن قام بها، وظالمة جائرة لمن وقعت عليه وذاق فالمسألة نسبية تتبع موقف المتخاصمين في الحرب.
 لكن يبقى السؤال الأساسي وهو: هل أن السلم جوهري في طبيعة الإنسان أم عرضي على لغة الفلاسفة في تحديد المفاهيم المتقابلة المتعارضة والمتناقضة. أنها مسألة تعود لمن وضع أساساً أولياً للحرب وحاول أن يقنن هذه الحرب بقوانين وقيم وأخلاقياته، أنه الإنسان نفسه.