14 نوفمبر، 2024 9:57 ص
Search
Close this search box.

الموظف العتيد

في احدى الغرف المنزوية من الدائرة الكبيرة ،الشديدة الازدحام بالناس المتدافعة لانجاز اهم معاملاتهم الحياتية اليومية ، وفي مكتب بسيط لابهرجة ولاخدم ولا مساعدون فيه كما يغعل من هم اقل منه شأنا واصغر دورا ، يجلس ذلك الموظف العتيد ، والمستشار الوحيد.
قيمته اكتسبها ويفرضها كل يوم وكل دقيقة من ايام عمله ، بمايحمله من معرفة شاملة بدقائق الامور ودهاليز الروتين ، وتفاصيل المرجعية الادارية التي تثقل كاهل المفاصل الحكومية التي تسير مصالح الناس بالكاد بسيب التخلف والجهل والبقاء على النظم القديمة التي لم تعد تجدي مع التطور الهائل من حول هذا البلد الذي كتبت عليه الاقدار والدول المستعمرة صنوف التراجع والتفكك ، واضيف اليه ماأطر ذلك من تولي الفاسدين مقاليد الامور ، ومانشروه من طرق الرشوى وسبل المحسوبية التي سرت في شرايين الدولة كالنار في غابة جافة .
وسط كل ذلك وبتقصير من كثير ممن دونه في المنصب واكثر ممن يرأسونه فيه ، يقف صاحبنا نزيها شامخا عصاميا منفردا ، يحتاجونه ولايحتاجهم لعلمه في تخصصه ، ودوامه في عمله لسنين حتى حفظ قوانين ولوائح اعقد دائرة خدمية تعليمية في الدولة العراقية عن ظهر غيب ، فهو الدليل الاداري غير المكتوب في كتاب ،والمرشد التسييري غير المطبوع في كراس.
الرجل يجيب على كل سؤال عن ظهر غيب ودون تلكؤ او انتظار ، وجوابه هو الصواب في كل تخصص يتولاه غيره، فمن يخطأ في الحسابات يلجأ اليه ، ومن يتعثر في الترفيعات يعتمد عليه ، ومن يعجز في تفسير القوانين يجلس بين يديه ، ولايتخذ المسؤول قرارا الا متكئا على كتفيه. وان لم يفعلوا فشلوا واخفقوا ثم عادوا ندما اليه.
لاينتظر من مسؤول رضا ، ولا من مراجع عطا ، ولامن زميل شكرا ، ولا اظنه يقيم وزنا لكل هذا ولا يتعقب الناس من اجل هذا ، انما الاخلاص في طبعه ، وحل المعضلات الادارية من ملكته ، ومقابلة الناس بالحسنى -رغم ازعاجاتهم من اصيل سجيته.
يقضي ساعات يوم عمله كما يجب ان يقضيها افضل من كلف بامانة الوظيفة الخدمية ، عينه في آن واحد على حالة مراجع واذنه على اتصال مراجع وقلمه يخط هامشا لمراجع ،
يسد شاغر من هو دونه ، وغيبة من هو اعلى منه ، حتى اذا قيل الموظف الكبير خارج او منشغل قالوا : لاتقلق صار الامر اليوم الى فلان ، واذا قيل الموظف البسيط غائب او منزعج قيل لاتحزن سيتولى امر عمله فلان ، واذا قيل ذهب الجميع فمن ينجز لي شأني؟ قالوا: لاتخش شيئا ، فما زال في الدائرة فلان.
لم يقدم نفسه مرشحا للمنصب الذي يستحقه اكثر من غيره منذ سنين ، والذي يقره له القانون والنظام وكثرة المؤيدين ، بل وحاجة المواطنين. لا ادري من اين جاء بزهده الاداري هذا ، وكيف رضي ان يبقى تحت يدي من كان طفلا في الادارة ايام قمة خبرته ، او عند من عرف باقبح الفساد منذ ان كان هو -ولا زال- في كامل نزاهته.
يبقى من هو مثله وحيدا ، وبين اقرانه – وان صلحوا- فريدا ، ويدعو له الناس ان يكرمه الله عيشا سعيدا ، ويكتب له عمرا مديدا .
ليظل كما عرف عنه على الدوام ،، موظفا مخلصا عتيدا.

أحدث المقالات