25 نوفمبر، 2024 11:05 م
Search
Close this search box.

الموشح عند الشاعرة الحلبية ابتهال المعراوي

الموشح عند الشاعرة الحلبية ابتهال المعراوي

نقد مقدّم من د. عبير خالد يحيي لنص ( صبابة ) للشاعرة السورية ابتهال المعراوي. 
مقدمة :
الشاعرة ابتهال المعراوي شاعرة سورية من مدينة حلب الشهباء، تلك المدينة التاريخية القديمة التي اشتهر أهلها بفنون الشعر والطرب والغناء، وتميزت بنوع من الشعر لم يعرف إلا بها ( القدود الحلبية والموشحات ) نتكلم عنها قليلاً لندخل أجواء القصيدة التي نحن بصدد نقدها ، ولنتعرف على البيئة العامة للقصيدة كخلفية معرفية .
اشتهرت مدينة حلب بالغناء والطرب وانفردت بالقصائد والقدود والموشحات وتتلمذ على أيدي منشديها ومطربيها أساطين أهل الفن كالسيد درويش وصباح فخري وصالح عبد الحي وغيرهمكما اعترف بفضل مبدعيها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وكارم محمود وفيروز وغيرهم وكان هذا اللون من الغناء مجالاً رحباً للاقتباس والتقليد في مختلف أقطار الوطن العربي .
القدود الحلبية
والقدود جمع قد ويقصد بهذه الكلمة القامة، وهي المرأة الممشوقة القد، وجاءت هذه التسمية لتصف جمال اللحن الموسيقي للأغنية الشعبية وتشبيه اللحن الجميل بالفتاة الجميلة ذات القد الجميل .والقدود انبثقت من الأغاني القديمة والحديثة، ومن القدود الحلبية المشهورة قد /دار من تهواه/ هذا القد من شعر وألحان أبو الخير محمد الجندي، وهناك قدود عديدة من هذا النوع نبعت من مدينة حلب الشهباء ،ومن أشهر الملحنين للقدود /أبو خليل القباني وأحمد عقيل  وغيرهما.وسميت هذه القدود باسم حلب لأنها كانت موطناً غنائياً ومسرحاً يتبارى فيه كل المطربين والملحنين من أنحاء الوطن العربي، فكانوا يسمون هذه المدينة أم الطرب في الوطن العربي، حيث كانت أيام زمان تتذوق اللحن الأصيل والطرب المبدع، وكانت الموسيقا والغناء يحتلان الصدارة في معظم البيوت الحلبية، كما كانت المسارح تحيي حفلاتها صباحاً ومساء .
أما الموشحات الحلبية :فقد سمي الموشح بذلك لأن النسوة كن يتزين بشريط من الحرير المرصع بالجواهر والذهب من أكتافهن إلى أردافهن وقد كانت بداية الموشحات من الأندلس وواضعها محمود القبري الشهير بالغرير،  وملحنها زرياب، وأول من حفظها الشيخ علي الدرويش ثم أولاده نديم وابراهيم الدرويش والشيخ عمر البطش وهذا له الفضل في تلحين الموشحات وبكري كردي لحن الدور وبعض الموشحات والموشح هو نوع من أنواع الشعر الغنائي مؤلف من مذهب ودور وخانة ويكون على أوزان متعددة .

الصورة الكلية للقصيدة :
القصيدة من الشعر العمودي ، منظومة على البحر المتدارك :فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن     فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن 
نص غنائي ، الغرض منه البوح والتأسي ينتهي بالنصيحة والحكمة .بقراءة متأنية للقصيدة ، نجدها متماسكة بالمجمل،  الترابط بين الألفاظ والمعاني واضح بعلاقة تبادلية محسوسة، إن أسقطناها على البيئة الإجتماعية للشاعرة والتي أتينا على ذكرها في المقدمة لوجدنا الاندماج شبه كامل.النص عاطفي من الدرجة الأولى ، ابتداء من العنوان وانتهاء بآخر كلمة فيه، زاخر بالصور الشعرية والصور البيانية حد البذخ،العاطفة جيّاشة حيث البوح متروك على السجيَّة، وكأن الشاعرة قد حشدت مشاعرها بزخم كبير، يلزمه الكثير من الوسائل التعبيرية  المساعدة من صور وصفية وإضاءات جميلة .

البيئة التي قيل فيها النص :
بيئة حضرية شاعرية مترفة 

الفكرة العامة للقصيدة ( المعاني والقيم الجمالية):
القصيدة هنا شعر قريض عمودي من البحر المتدارك ، قافيته حرف الهاء الذي يشير إلى الرهافة والهمس والشفافية ، شعر غنائي بامتياز  كما الموشحات الأندلسية ، وسنشير بمقارنة بينه وبين موشح معروف لدينا، 
البداية من العنوان : صبابة 
صَبابة ( اسم ):
الصَّبابةُ : الشوقُ ، أَو رقَّته
الصَّبابةُ : حَرارة الشوقُ
مصدر صبَّ إلى
سباق يشير إلى السياق الذي نقلتنا إليه الشاعرة مباشرة رابطة الاسم بمصدره المكاني (قلب صب بك يؤرقه ) وتتابع بوصف نار  الشوق والبين ، أما الروح فلها بوح وأنين، الليل أنيس العاشقين ، ومقلَب أوجاع المفارقين ، لا يرفق بالقلوب المكلومة ، المشتاقة إلى معانقة الحبيب ،  وهيهات، والدهر يشدّد قبضته، يحطم ويبعثر ويوجّه مصائبه ، أما الأيام فللشاعرة  منها شوك الورد يخز القلب فيدميه.
ثم تنتقل الشاعرة نقلة جميلة بصورة مُلفتة تصف معالم حبيبها ، يوسفيّ الحسن ، يعشقه القلب والعين، أخلاقه تبدأ من الشهامة والمروءة، تلوذ الشاعرة  بظله وأمانه تغمرها سعادة تنسيها الدنيا، تستعيد ذكريات أيام الوصل، العيش بقلبه جنّة، وبعقله معرفة، تنصهر الروحان بجسد واحد، فتغدو هي زفرة وهو شهقة !الله !
ما هذه الصورة الرائعة ؟!
هكذا يطوّع شعراءالرومانسية  اللغة الشعرية لتصوير الشحنات العاطفية المتدفقة من نفوسهم ليأتي اللفظ موحياً بالمعنى بما فيه من رقة وعذوبة وحرارة وغنائية ووضوح.    
ومن يباريهم في وصف المحسوس ؟ ومزج المحسوس بالمسموع ؟ (ميّاد قدّك لي نغم – ولصوتك سحر أطربه)
وانظروا كيف تصف الشمائل الحميدة، الكرم والجود (ولكرم عطائك أيقونه – والجود وجودك منبعه ) جعلت الحبيب أصل كل الشمائل ، وهو الأس والمنبع .
ثم ينخفض مؤشر الفرح ، وتبدأ الحسرة مشوارها بخطوة مودعة ، الحبيب كان دنيا ، لكن الحظ أبى إلا أن يحرمها ، والحرمان بأقسى صوره يتمٌ، حرمانها منه كان يتم، وخروج من الجنة، والحال بعده أسود بسواد ليل الأرق فيه مقيم إقامة سرمدية .
يتبع ذلك حزن أنيق، إقرار بحكمة بالغة ، الدنيا لا تبقى على حال ، ودوام الحال من المحال ، الشمس قد تشرق فنفرح بها لكنها ترافق الغيم،  والدهر تُخشى نوائبه ، من زاره العز يوماً فلا يظنه مقيماً، ومن جاراه الدهر حيناً فلا يأمنه، فجبلّته التقلّب والغلَبة .

هكذا أنهت شاعرتنا تجربتها الشعورية بنصيحة حكيمة .

الفكرة في القصيدة  ليست جديدة ، شأنها شأن القصائد العمودية القديمة التي تدور حول فكرة أو فكرتين، حيث الاتباع هو الموجه ، 
لكن بحال من الأحوال تبقى فكرة الشوق والحب و ألم الفراق مواضيع وجدانية جاذبة ، نتفاعل معها وبصورة مبالغ فيها أحياناً.
لا نشك بصحتها لأنها مشاعر إنسانية عامة .

المعاني الشعرية هنا أيضا ليست جديدة ، لكنها مصاغة بطريقة شفيفة وسلسة ، ولعل الغنائية الغالبة عليها تجعلها قريبة منا وخفيفة على قلوبنا، إن تحدثنا عن عمقها فهي عميقة ما يميز الرومانسية بشكل عام، تسلسل القصيدة منطقي ومرتب وهذا يعكس مقدرة الشاعرة على استخدام أدواتها بجمالية وأناقة .

العاطفة :
وجدانية إنسانية، مؤججة بالرومانسية ،  حزينة تتجرع الأسى والحسرة، ومطعمة بالحكمة،  وهي صادقة كونها تجربة شخصية بل بشكل عام هي تجربة إنسانية كل من مرّ بها وصّفها على هذه الشاكلة .

خيال الشاعرة :

كان خصباً حد البذخ ، ولا عجب فالوصف والخيال مرتكز أساسي في النصوص  الرومانسية.
( قلب صب بك يؤرقه)
(لهيب الفرقة يحرقه)
( الروح تئن لها بوح)
( وحنين الوجد يغالبهُ )
( يا دهراً كاد يبعثرني)
( شوك الأيام لنا ورد)
(يا يوسف حسنك في وجه- هو وجه حبيبي طلعته)
( هو عين القلب له ترنو)
( وسكنت بجنة خافقه)
( وبعقل صرت مداركه )
 ( يزفرني ثم ويشهقه)

( ميّاد قدّك لي نغم)
( ولكرم عطائك أيقونه)
( والجود وجودك منبعه)
( يا أنساً كنت لي الدنيا)
( الكون الواسع معبده)
( أرداني الحظ ويتّمني)
( قد سرمد ليلي أرّقني)
( قد جاء زهوراً مثمرة ) 
( والزهر تفوّح عودته)
(للدهر صروف تردينا )
(الغيم يلازم صحوته)
( قد مرّ العز بوادينا)
( فتعطّر منه تملّكه)
( من يأمن دهراً يغلبه)

الأسلوب :

أسلوب أدبي راقي ، استخدمت فيه الشاعرة التراكيب الغنية بالصور البيانية والخيال والوصف ، ألبست المعنوي ثوب المحسوس 
( الروح تئن ، لهيب الفرقة يحرقه،حنين الوجد يغالبهُ ،يتمنى القربُ يعانقه،يا دهراً كاد يبعثرني،شوك الأيام ، الوخز لقلب صاحبه،لكرم عطائك أيقونه، قد مر العز بوادينا، أرداني الحظ ويتمني ….)
وإظهار المحسوس في صورة المعنوي (  ميّاد قدك  لي نغم ،الزهر تفوّح عودته،وسكنت بجنة خافقه….)

وكان للأسلوب الحكيم نصيب في هذه القصيدة جاء بصيغة حكمة ( شمس قد تشرق تحيينا ، للدهر صروف تردينا ،…)
 و نصيحة ( نصح من قلبي ومن عقلي من يأمن دهراً يغلبه).

أجدني أقارن هذه القصيدة مع قصيدة ( يا ليل الصب) للحصري القيرواني وقد غنتها فيروز وكانت من روائع ما غنّت 

يا ليل الصب

يا ليلَ الصَّبِّ متى غَدُهُ أقِيامُ السَّـــاعَةِ مَوْعِدُهُ
رَقَدَ السُّــــمَّارُ فَأَرَّقَهُ أَسَــــــفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لهُ مِمَّـــا يَرْعاهُ ويَرصـــُدُهُ
كَلِفٌ بِغَزالٍ ذي هَيَفٍ خَوْفُ الواشِـــينَ يُشــَرِّدُهُ
نَصَبَتْ عَينايَ لهُ شَــرَكاً في النَّومِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
وكَفى عَجَباً أنّي قَنَصٌ للسّــــِرْبِ سَبَاني أَغْيَدُهُ

صـــَنَمٌ للفِتْنَةِ مُنْتَصِبٌ أَهْـــــواهُ ولا أَتَعَـــــبَّدُهُ
صاحٍ، والخَمْرُ جَنى فَمِهِ سَكْرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
يَنْضو مِن مُقْلَتِهِ سَيــْفاً وكَأنَّ نُعاســــــاً يُغْمِدُهُ
فَيُريقُ دَمَ العُشَّــــاقِ بهِ والوَيْلُ لمَــنْ يَتَقَــــــلَّدُهُ
كَــــلاّ، لا ذَنْبَ لمَنْ قَتَلَتْ عَيْناهُ ولم تَقْتُـلْ يَــدُهُ
يا مَنْ جَــحَدَتْ عَيْناهُ دَمي وعلى خَدَّيْهِ تَوَرُّدُهُ
خَدّاكَ قدِ اعْتَرَفا بِدَمي فَعَلامَ جُفونُكَ تَجْحــَدُهُ
إنّي لأُعيذُكَ مِن قَتْلي وأَظُنُّـــكَ لا تَتَعَمـــــَّدُهُ
باللهِ هَبِ المُشْتاقَ كَرَىً فَلَـــــعَلَّ خَيالَكَ يُسْعِدُهُ
ما ضَرَّكَ لو داوَيْتَ ضَنى صَبٍّ يَهْـواكَ وتُبْعِدُهُ
لم يُــبْقِ هواكَ لـــهُ رَمَقاً فَلْيَبْكِ عليــهِ عــــُوَّدُهُ
وغَداً يَقْضي أو بَعْدَ غَدٍ هلْ مِن نَظَرٍ يَتـــَزَوَّدُهُ
يا أَهْلَ الشَّرْقِ لنا شَرَقٌ بالدّمعِ يَفيضُ مُوَرَّدُهُ
يَهْوى المُشْتـاقُ لِقاءَكُمُ وصُروفُ الدّهْرِ تُبَعِّدُهُ
ما أَحْلى الوَصْلَ وأَعْذَبَهُ لــولا الأيّامُ تُنَكِّدُهُ
بالبَيْنِ وبالهُجْـرانِ، فيا لِفُؤادي كيفَ تَجَلُّـدُهُ

كلمات: الحصري القيرواني 
ألحان: توفيق الباشا 
مقام: حجاز

هذه إحدى الموشحات الأندلسية ، إلى أي درجة تشبه قصيدتنا هذه ؟

أسباب ظهورالموشح في الأندلس**1- تأثر الشعراء العرب بالأغاني الأسبانية الشعبية المتحررة من الأوزان والقوافي.2- ما تولد في النفوس من رقة وميل إلى الدعابة في الكلام.3- شعور الناس من أدباء وشعراء بضرورة الخروج عن الأوزان القديمة المعروفة لضيقها عن احتمال عبث الشعراء.4- الموشحات أطوع وأيسر للغناء والتلحين.5
– انسجامها مع ميل العامة إلى تسكين أواخر الكلمات.
6-اشتمالها على بعض ألفاظ العامة وأمثالهم.
7-السأم من النظم على وتيرة القصائد القديمة.
فإذن الموشح الحلبي ما هو إلا امتداد للموشحات الأندلسية القديمة ، ومن نفس الروح .
أتمنى أن أكون قد أحطت بمعظم جوانب ومفاصل القصيدة ، وإن كنت قد قصرت فالمعذرة ، تحياتي إلى الشاعرة الرائعة ابتهال المعراوي 

النص الأصلي    
   

صبابة

قلبٌ صبٌ بكَ يؤْرِقه
ولهيبُ الفرقة يحرقهُ
الروح تئنّ لها بوح
وحنين الوجد يغالبهُ
ياليل البعد ألا بعداً
فصبابةُ روحي تنشده
رفقاً فالقلبُ به كَلَفٌ
يتمنّى القربُ يعانقهُ
يا دهراً كاد يبعثرني
يقضي ويديرُ نوائبهُ
شوك الأيام لنا وردٌ
والوخز لقلبي صاحَبَهُ
يا يوسف حسنك في وجهٍ
هو وجه حبيبي طلعتهُ
هي عين القلب له ترنو
وبذات العين ستعشقهُ
يا شهماً أنساني الدنيا
و بِلَوذِ حِماهُ أنا معهُ
أتفيّأُ ظلاً يسعدني 
وبسعدي كان تصبّبهُ
وسكنت بجنّة خافقهِ
وبعقلٍ صرتُ مداركهُ
صرنا روحين بذي الجسد
يَزْفُرْنِيَ ثمّ ويشهقهُ
ميّادٌ قدّكَ لي نغمُ
ولصوتكَ سحرٌ أطربهُ
ولكرمِ عطائكَ أيقونهْ
الجودُ وُجُودُكَ منبعهُ
يا أُنساً كنتَ ليَ الدنيا
الكون الواسع معبدهُ
أرداني الحظُّ ويتّمني
إذ تأخذ عمري جنّتهُ
قد سرمد ليليَ أرّقني
لن ينسى العمر ترددهُ
 قد جاء زهوراً مثمرةً
والزهر تفوّح عودتهُ
للدهر صروفٌ تردينا
كم يخشى القلب تقلّبه
شمسٌ قد تشرق تحيينا
والغيمُ يلازمُ صحوتهُ
قدْ مرّ العزّ بِوادينا
فتَعطَّرَ مِنهُ   تَمَلَّكَهُ
نصحٌ مِنْ عقلي من قلبي
مَن يأمنْ دهراً يغلبهُ

ابتهال..

أحدث المقالات

أحدث المقالات