يقول الله تعالى في مُحكم كتابه: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج: 30]، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[ لقمان: 6].
فُسِّرت كلمة قول الزّور بالغناء، والمقصود قول الباطل، ولهو الحديث فُسّرَ بأنَّ منه الغناء، وهو الحديث الذي يؤدّي إلى إضلال الإنسان. من بين فقرات خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان المبارك أنه قال: “وغضّوا عمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعَكم”، إذ يؤكّد النبي(ص) في هذه الكلمة أنّ هناك من الأمور المسموعة ما لا يحلّ للإنسان أن يستمع إليه، لأنّه يؤثر تأثيراً سلبياً عليه وعلى المجتمع.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الموضوع يزداد انتشاراً يوماً بعد يوم، ويتمّ الخلط فيه بين ما هو مباح وما هو محرّم من هذه الأفعال. وذلك بالرّغم من وجود آياتٍ ونصوص صريحة بذلك. ولكن ما نراه اليوم هو تخبّط في هذا الأمر وحيرة من قبل العامّة من الناس، فأصبحوا يحلّلون ما هو محرّم، إمّا عن قصور في الفهم أو لامبالاة أحياناً.
ولا بأس من بعض التوضيحات لإزالة اللّبس والإبهام عن بعض هذه الأمور ليكون الناس على بيّنةٍ من أمرهم، مستندين في كلامنا إلى رأي المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله(رض).
الغناء لغوياً: هو ترجيع الصوت وتمديده، وكلّ الحالات التي يردَّد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمى غناءً. والطرب ليس دخيلاً في الغناء، وهناك غناء مطرب وغناء غير مطرب. لذا، يمكن إعطاء صفة الغناء لكلّ طريقة في إطلاق الكلام، سواء كان شِعراً أو نثراً، إذا كان بأسلوب الترديد والترجيع.
إنّ مسألة الغناء تنطلق من فكرة، وهي طريقة أداء الصّوت، أو طريقة تحريك الكلمة، وهذه تختلف بحسب اختلاف الصوت، فالصوت الملحَّن أو المنغَّم، يعطي للكلمة في نفس السّامع التأثير العميق الذي قد يؤدّي إلى بعض النّتائج على مستوى الإحساس الشّعوري في هذا المجال، فعندما يكون الكلام كلام حقّ، كلام خير مفيد ونافع، فمن الطّبيعي أنّ اللّحن يؤدّي إلى تعميق هذه المعاني في النّفس، بحيث يتفاعل معها الإنسان إيجاباً، أمّا إذا كان هذا الكلام كلاماً سلبياًّ، بحيث يحمل دعوةً إلى الشرّ والهدم والحقد وكلّ ما هو حرام عند الله، فهذا أيضاً يترك تأثيراً في النّفس، ولكنّه تأثير سلبيّ، لأنّ النّفس تستوعب كلّ هذه المعاني، وبالتالي، فإنّ الإنسان يمكن من خلال هذه المؤثّرات أن يندفع لتنفيذ هذه الأمور الكامنة في النّفس من خلال هذه الأغنية.
إنّ الغناء الذي يثير الغرائز، بحيث يجعل المستمع يعيش في حالة هواجس جنسيّة، من حيث طبيعة الّلحن الذي قد يؤدّي إلى ذلك، أو من حيث المضمون الذي يؤدّي إلى إثارة الشّهوات، هو غناء محرّم، وكذلك الغناء الذي يُمتَدَح فيه الطغاة، كالأغاني التي تتضمّن الإشادة بالأنظمة الفاسدة، أو بالأوضاع السيّئة.
أمّا الأغاني الوطنيّة التي تربط الإنسان بالمعاني الإيجابيّة للوطن، مثل تمجيد الدّفاع عن الوطن، والالتزام بالحريّة والاستقلال، وما إلى ذلك، هذه أغانٍ قطعاً ليست محرّمة. لذلك نقول إنّ الغناء الذي يتضمّن التغزّل بالطّبيعة، والحنين إلى الوطن والأهل وما إلى ذلك، والغناء الذي يرتفع بالرّوح، كالغناء الصّوفي مثلاً، الذي يفتح أفق الإنسان على الله سبحانه وتعالى، وعلى كلّ الأغاني الرّوحيّة، ليس محرّماً.
وقد يعتبر البعض أنّ الحبّ هو من المعاني السّامية التي ترتفع معها روح الإنسان وترتقي، هذا صحيح، ولكن هناك فارقٌ بين الحبّ الذي هو قيمة إنسانيّة، وبين الحبّ الذي يخاطب فيه الرّجل المرأة، وتخاطب فيه المرأة الرّجل، لأنّ الثاني يؤدّي إلى إثارة الغريزة، والإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش في حالة إثارة الغريزة، لأنّ هذه الإثارة سوف تتحوّل إلى سلوكٍ سلبيٍّ غير أخلاقيٍّ في هذا المقام. أمّا الحبّ بمعانيه الرّوحيّة، فهو ليس محرّماً. هناك نقطة ينبغي أن نعرفها في هذا المجال، وهي أنّ الغناء قد يسلب الإنسان إرادته في الانفعال بالشيء، والله يريد للإنسان أن يعيش إرادته باختياره، فهو قد يستطيع أن يحرّكها سلباً أو إيجاباً، لكن عندما يضغط عليه الجانب الإحساسي والشّعوري في ألحان مثيرة، تثيره وتحرّكه لا شعورياً نحو بعض السّلوكيات غير المقبولة، فإنّه يتجرّد من اختياره.
ونجد في بعض الأحيان بعض الأغاني الثورية التي تخلق لدى الإنسان ردّات فعل عنيفة، وهنا يجب أن نوضح هذه نقطة، وهي أنّه إذا كان هذا الشيء يمثّل الخير للإنسان، فلا مشكلة فيه، لأنّ الإنسان حين يندفع ستكون النّتائج إيجابيّة، أمّا بالنّسبة إلى الجوانب الأخرى التي تدفع إلى السلبيات في حالات انفعال الإرادة، فهي حتماً مرفوضة.
وقد يجعل البعضُ بعضَ أسماء المغنّين وغيرهم معياراً في الحليّة والإباحة، فيقولون هذا المطرب أو المغنّي أغانياته ليست محرّمة لأنّه لا يثير الغرائز أو السلبيات في الإنسان، والكثير من الناس يتلطّى خلف هذه المسمّيات لتبرير بعض أفعاله ولكن هذا المعيار لا يصحّ لأن مضمون الأغنية و تأثيرها هما اللذين يحدّدان حرمتها وحليّتها. فما نراه أنّه حتّى حبّ الرّجل للمرأة، ذلك الحبّ العذري الذي يرتفع بالنّفس، ويشكّل قيمة روحيّة وإنسانيّة، وليس قيمة غرائزيّة. الآن، عندما ندرس التّجربة التي يعيشها المراهقون في مسألة الأغاني المتداولة، نجد أنّها تخلق نوعاً من الانجذاب اللاّشعوري إلى الفنّان، وتجعل الارتباط به ارتباطاً غرائزيّاً.
ومن الأمور التي يحرم على الإنسان الاستماع إليها، لتأثيرها السلبيّ عليه من الناحية الأخلاقية، الموسيقى التي تثير الغرائز والشهوات، بحيث تخلق في مشاعر الإنسان وأحاسيسه حالة الرّغبة المحرّمة بطريقة وبأخرى، وذلك بحسب طبيعة الموسيقى، حتى لو كان بعض الناس لا يتأثّر بها بشكلٍ مباشر، ولكن الملحوظ في المسألة هو طبيعة اللّحن، أو الموسيقى العنيفة التي تحطّم الأعصاب وتؤدّي إلى ضرر على طبيعة توازنه النفسي.
فهذان النوعان من الموسيقى هما ما يُحرّم على الإنسان استماعه، أما الموسيقى التي تتضمّن إيحاءات روحيّة ونفسيّة توحي للنفس بما يسمو بها ويرتفع، أو الموسيقى الحماسيّة التي تثير الناس نحو القضايا المهمّة في حالات التحدّي ضدّ الأعداء.
ونحن نعرف أنّ الموسيقى تدخل إلى إحساس الإنسان وشعوره، فتترك فيه الكثير من المؤثّرات السلبيّة تارة أو الإيجابيّة أخرى بشكلٍ غير اختياري، بحيث يهتزّ من غير أن يعرف لماذا اهتزّ، والله تعالى لا يريد للإنسان أن يخضع لأيّ عناصر غير اختياريّة في مؤثّراته النفسيّة أو العمليّة في هذا المجال، لأنّ الله يريد للإنسان أن تكون أخلاقيّته متوازنة لا تتأثّر بالأمور الشعوريّة العاطفيّة التي تنفذ إليه بدون اختيار.
وقد بتنا نشاهد مؤخّراً على شبكات التواصل الاجتماعي، مَنْ يقوم من الشباب والفتيات بنشر بعض الأغاني أو المقطوعات الموسيقيّة المختلفة، ويلجأون إلى تبرير ذلك ببعض المبرّرات من هنا وهناك، ولكن هنا يجب علينا تطبيق الأحكام السّابقة في الحكم على حرمة أو إباحة هذه الأشياء انطلاقاً من تأثيرها السلبيّ أو الإيجابيّ كما مرّ سابقاً.
وننهي مقالنا هذا بكلام للسيد فضل الله (رض): “أنا شخصيّاً لا أتحدّث عن الواقع الموجود، بل أُعطي خطّاً عاماً، وعندما ينطبق هذا الخطّ على المعاني التي ترتفع بالنفس والفكر والروح، ولا تترك تأثيراً سلبياً، سواء صدرت من الرّجل أو من المرأة، فلا مشكلة في الغناء. وهناك أناس يعارضون تفكيري في هذا المجال، وهذا ليس فقط رأيي، بل هناك الكثير من المراجع الدّينيّة والعلماء الأتقياء جداً، الذين يرون أنّ مشكلة الغناء، إنما هي في المضمون وليس في اللّحن فقط”.