رَغم إن اليونانيين وأجدادَهم الاغريق كانوا مِن أوائل شُعوب الأرض التي عَرَفت الموسيقى وأهتمّت بها، كونَهم كانوا مُحبّين للجَمال وكل ما يَرتبط به مِن فنون وعلى رَأسها الموسيقى. ورَغم أن كلمة موسيقى قد تكون حَسَب بَعض الدراسات يونانية الأصل، وكانت تعني أولاً الفنون عُموما، ثم باتت تطلق فيما بَعد على فن الأنغام وأوزانها وما يَرتبط بها مِن إيقاع وشِعر مُغنّى كان صنواً للموسيقى وكانت الموسيقى صنواً له. رَغم كل ذلك إلا أنه لم يُعرف عَن المَدرسة اليونانية بأنها رائِدة في عالم موسيقى الآلات التي تُعزف دون كلِمات، أي الموسيقى الكلاسيكية التي تبلوَرَت بالقرن السادس عَشَر، كمَثيلاتها الألمانية والروسية وحَتى الفرنسية والأنكليزية بدَرجة أقل، التي كان لكل مِنها لونها البارز وطبيعَتها المُتميزة عَن قريناتها، وبالتالي دَورها وريادَتها البارزة بعالم الموسيقى الكلاسيكية. بالمُقابل عُرف عَن هذه المَدرسة أصالتها وخصوصية بنائها الهارموني الذي يَرتبط بآلات موسيقية مُعينة كالبوزوكا، وبألحان شَعبية خاصّة هي جُزء مِن تُراث يوناني عَريق بتأريخه وجَماله يَستشعِره المَرء حال سَماعِه لهذه الآلات وأنغامِها الساحِرة.
مَقطوعات تهفوا لها النفس وتعشقها لشِدّة جَمالها ورَوعَتها، مُفعمة بالعَواطف والأحاسيس، تستلهم تُراث بيئتِها ومُجتمَعِها تمتد جُذورَها في الشَرق والغرب.. هذه هي المُوسيقى اليونانية الكلاسيكية، وهذا ما يَشعُر به المَرء حين يَستمِع لمُؤلفات الموسيقيين اليونانيين، وهذه هي الخُصوصية التي مَيّزت المَدرسة اليونانية عَن مَثيلاتها مِن المَدارس الأوروبية وشَكلت بَصمَتها الواضِحة في عالم الموسيقى الكلاسيكية رَغم قُصر عُمرها وقِلة إنتاجها. فرَغم تواضُع حُضورَها كميّاً ورَغم أنه جاءَ مُتأخِّراً ببدايات القرن العشرين، إلا أن هذا الحُضور كان نوعِيّاً بإضافاتِه وغنيّاً بتأثيره على الموسيقى الكلاسيكية، بمَزجه لسِحر الموسيقى اليونانية وما تختزنُه مِن تراث حَضاري غَني مَع البناء الأوركسترالي ليُبدِعَ لنا مُؤلفات موسيقية جَميلة وساحِرة، نَجد المِثال والتجسيد الأبرَز لها في مُؤلفات الموسيقار اليوناني مانوس هاتزيداكيس الذي توفي عام 1994 تاركاً ورائه إرثا كبيراً مِن الأعمال الموسيقية الجَميلة التي تُعَد اليوم مِن رَوائع الموسيقى العالمية، لعل أبرَزها (إبتسامة جيوكندا) التي ألفها عام 1965، أعمال تمتاز بكونِها تجمَع بَين الموسيقى الكلاسيكية ببنائِها الهارموني الرَصينوالموسيقى الشعبية اليونانية بأنغامها البَسيطة الساحِرة. كان يقول “أنا أؤمِن بموسيقى تعكِس دَواخِلنا وتعَبّر عَنا بعُمق، لا بموسيقى تعكِس سَذاجتنا وعاداتنا المُكتسَبة بالقوة” وقد حَرَص على أن تكون موسيقاه بهذا الشَكل وتخرُج للناس بهذه الروحية، وفِعلاً نَجَح هاتزيداكيس بخلق بيئة موسيقية جَديدة مَيّزت موسيقاه والموسيقى اليونانية عُموماً.
ولكي تكتمل رُؤيتنا للموسيقى اليونانية لابُد مِن الإشارة لظاهِرة إرتباط النغم بالحَركة في بنائها الهارموني فهي غالبا عِبارة عَن نَغم راقِص، الى دَرجة أن صورَتها لاتكتمِل لدى السامِع أحياناً دون رُؤية الدَور الذي يُؤديه الرَقص مَعها، والذي يَبدوا أنه قد إرتبَط بالموسيقى اليونانية بوَصفه أحَد الطقوس التي كانت تؤدّى للآلهة الإغريقية، ثم انتقل إلى مَجال التعبير الإيقاعي، مِثلما انتقلت الأغنية مِن أنغام الترانيم إلى صورتها الحَديثة الحالية، مَع إحتفاظ الرَقص بلَمَسات مِن أجوائه الطقسية حَتى يَومنا هذا. ومِن أهَم الأمثلة التي تعَبّر عَن هذه الظاهرة موسيقى سويت (زوربا) التي أبدَعَها الموسيقاراليوناني ميكيس ثيودوراكيس عام 1960 لتكون موسيقى فلم زوربا اليوناني، والذي أعتمَد على رواية كتبَها نيكوس كازنتزاكس تحمِل نفس الأسم. بَعد نَجاح الفيلم لاقت موسيقى زوربا نَجاحاً مُنقطع النظير ونالت شَعبية كبيرة ليسَ فقط باليونان بَل وكل أنحاء العالم وسُرعان ما أصبَحَت الى جانِب الكثير مِن أعمال ثيودوراكيس المُمَيّزة مِن أهم وأبرَز مَعالم الموسيقى اليونانية.
ختاماً ولكي لا نبخَس الشَعب اليوناني حَقه وهو صاحِب إحدى أهَم الحَضارات في تأريخ الإنسانية ومُنجِب أعظم فلاسِفتها ومُفكريها، لابُد أن نشير للدَور الريادي الذي لعِبته المَدرسة اليونانية خلال العُقود الأخيرة مِن القرن العشرين في إبتكار موسيقى العَصر الجَديد التي تعرَف بـ New Age مِن خِلال الموسيقار ياني والموسيقار فانجلس اللذان يُعّدان مِن أبرَز وأشهَر مَن أبدَعوا في مَجال هذه الموسيقى، والتي باتَ لها اليوم كيانَها الخاص وأجوائَها المُمَيّزة ومُحبّيها ومُستمعيها في كل أنحاء العالم.
في الرابط أدناه الجُزء الأول مِن عَزف أوركسترا أثينا السمفوني لِرائِعة الموسيقار اليوناني مانوس هاتزيداكس (إبتسامة جيوكندا) بقاعة الميغارون الشَهيرة في أثينا بَعد عام على وفاته، وفيه الحركات الثلاثة الأولى من السويت:
http://youtu.be/gsX_FnBgbvw
وفي الرابط أدناه تسجيل نادر للمَقطع الخالد مِن سويت (زوربا) بعَزف أوركسترا ميونخ السمفوني وقيادة الموسيقار ميكيس ثيودوراكس نفسه، الذي يُفاجأ بصُعود الأسطورة الراحل أنطوني كوين الى المَسرح ليُشاركه الرَقص، وهو الذي كان لإبداعِه في تجسيد شَخصية البَطل في فلم زوربا ولرَقصته الشَهيرة التي أدّاها في نهاية فلم زوربا الأثر الكبير في الشَعبية والشٌهرة الخرافية التي نالاها الفلم والرَقصة مَعاً:
http://youtu.be/bARmb2A0qKQ