حكومات عربية بائسة , ولا أزكي منها أحدا أبدا , فكلها شريكة في الجريمة , وموغلة بدماء الرعية , التي باتت تهرب خفافا وثقالا .
كل يوم نسمع ونرى حصيلة عددية , ونشاهد صور جديدة لقوافل جثث طفت عند السواحل مستلقية , مثقلة ومنتفخة بطونها بمياه بحار الموت التي رأى فيها الكثيرون وكأنها الصراط الذي يفصل بين جحيم بلدانها وجنان دول أوربا .
جثث لفظ البحر بعضها لتكون شاهدا على الأزمة الأخلاقية التي تمر بها الأمة وبحكامها , وجثث أخرى شاء القدر أن تكون بطون الأسماك قبورا لها .
لم يخرج هؤلاء شطرا ولا بطرا , ولم يكونوا مخيرين كما يحاول بعض أصحاب الكروش أن يصور ذلك وهم يلعنون ويشتمون الأباء والأمهات الذين حملوا على أكتافهم أطفالهم وركبوا الزوارق بحثا عن بر أمانٍ لا يغلق أبوابه بوجه اللاجئين له , فالحكومات العربية المترفة لم تفتح أراضيها لهؤلاء لتجيرهم وتنتخي لمعاناتهم , لأن حضوضهم ليست كحضوض الهنود والبنغلاديشيين الذين تزخر بهم بلدان باتت تنافس نمرود في عشق تشييد أكثر الأبراج علوا للسماء .
حين أشاهد الألمان شعبا ومسؤولين وهم يستقبلون الناجين من المهاجرين العرب ويحيوهم كالأبطال وبغض النظر عن مسؤولية حكومات أوربا في تسلط الطغاة على رقاب الناس , أقف صامتا لأستذكر كل ما علمونا إياه منذ الصغر حول ما قيل من أمجاد أمة علمت الإنسانية معنى المروؤة والإستنصار للضعيف !! ولا أجد تفسيرا منطقيا لبيت الشعر القائل ” بلاد العرب أوطاني .. من الشام لبغدانِ ” .
ولا أعلم إن كان الكثيرون ممن أتعبوا أناملهم بكتابة بضع كلمات تأسف وأعربوا عن قلق مشابه لقلق بان كي مون وهم يشاهدون بشاعة صور الأطفال والنساء الذين ماتوا , يا ترى هل يعون ما معنى الموت غرقا , وكيف هو شكل الألم والمعاناة التي تنقضي بخمسة دقائق وكأنها سنين خمس عجاف للغاطس تحت الماء قبل أن ينقطع الأوكسجين عن الدماغ ليصاب المرء بعدها بالشلل وتتوقف كل أعضاءه فيلفظ أنفاسه زبدا من رئتيه .
أما من يحاول أن يتشبذ بالحياة ويصارع بكفيه وقدمية صعودا ونزولا بحركات عشوائية , فأنه يستنشق جرعات ماء تملء الحويصلات لتزداد فترة الأوجاع أحتقاناً , ملامحها إزرقاق الشفتين وما حول العينين , وصدمة وفزع أصاب العقل بنكسة لدى كثيرٍ ممن نجوا من تجربة عد الميت فيها شهيدا لشدتها وهولها وفضاعتها .
وللحديث صلة وإن تعددت الأسباب فالموت واحدُ , فحينما كنت في بغداد , خرجت لأحدى المجمعات التي تقطنها عوائل نزحت من بعض محافظات العراق مؤخرا , وهي تسكن خرائب وهياكل منازل , ذهبت لأقدم بعض المساعدات , فساقني حظي عند عائلة نازحة من ناحية تدعى يثرب في محافظة صلاح الدين , ليقص علي أحد أفرادها ما أصابهم من كرب وبلاء , يعكس منظر الأم التي ذهب عقلها , يقول لي المتحدث , حينما حوصرنا وأصبحنا بين رحا مدفعية الجيش ونيران تنظيم الدولة , سارعنا لنركب القوارب لننفذ من خلالها للجانب الأخر من النهر , فصعدت أختنا ومعها إبناها التوئمان , أحدهما تحمله بيدها والأخر يجلس بجنبها وعند طرف القارب , وفي ظل الهلع والخوف , وتراطم الأمواج ذات اليمين وذات الشمال , فأذا بطفلها الذي تحمله يسقط في الماء , فتقف الأم فزعة صارخة غير مدركة بأنها تسببت عند نهوضها في سقوط طفلها الأخر الذي بجنبها , تزيد في الصراخ وتناشد سائق الزورق أن يتوقف لينتشلوا الطفلان , فيكون الرد ” يا أمي لقد مات طفلاكي ولا حاجة لنجازف بارواح من في القارب إن عدنا ” وبالفعل أبتلع الماء الطفلين أمام الناظرين , ونجا الأخرون من موت الى موت أخر بطيء .
حكامنا العرب , ممن تكنوا وعبر وعاض السلاطين بحفظه الله وأية الله والحاكم بأمر الله , فأن الشعوب العربية قد حازت وبلا منافس على كنية ” رحمها الله ” .