18 ديسمبر، 2024 9:35 م

الموت في حضرة سعدي يوسف

الموت في حضرة سعدي يوسف

صوته الخفيض عبر الهاتف، لم تتغير نبرته، وكلماته المحببة،تنسل من بين الأنفاس المتقطعة، محملة بمرح خفي، كما كنا في الأيام الخوالي.
حين قطن عمان، كان منزل سعدي أول عنوان، في الظهيرة، او المساء، مقصدي؛ فاللقاء مع الشاعر البصري، يمنح الجلسات،عبق مـدينــــــة باسقة ببدر شاكر السياب وسعدي يوسف ومحمود البريكان ومحمد خضير، والوف المبدعين على مدى تاريخها المعفر، بطلع النخيل، والحواري بالشناشيل.
لا يقرأ سعدي أشعاره في الجلسات الخاصة، لكن احاديثه، تتقافز بالصور الشعرية، ويغص بالضحك الى حد الشهيق، حين يسمع تعليقا لاذعا ، أو نكتة لم تفقد طعمها.
يذكرك دوما، بانه حاضر في كل الأحداث التي عصفت بالعراق، يطوي جريدة الحزب السرية، في جيبه الصغير، ويسلمها لبدر شاكر السياب، في غفلة من عيون الجواسيس.
بيد ان الجواسيس خويه سلام ، تكاثروا مثل الفطر؛ كما كان يردد سعدي، واستولوا على الصحيفة، ومات بدر، وبقي سعدي شيوعيا، لآخر نفس من أيام المزبن الى أيام اللف.
سعدي، في زيارة الى موسكو، خلال الحقبة السوفيتية، شارك في مؤتمر ثقافي باحدى الجمهوريات الآسيوية السوفيتية، لم يندهش، ولم يصب بخيبة أمل، لكنه وقف يتأمل واحدة من أكبر السجادات في العالم ، حاكها شغيلة تلك الجمهورية، على مدى سنوات، وصارت جدارية؛ في المبنى الضخم لدار الحكومة .
سعدي مغرم بالجداريات، ويستوحي ابن الخصيب، من القها، أجمل الاشعار.
لا ادري ان كانت السجادة العملاقة أوحت لسعدي قصيدة، لكنا في طريق العودة بالقطار الى موسكو، سمعت مسحوق الهمس في داخله:
يا خيبتنا من الرفاق!
كان يفتح نافذة القطار المسرع، بين حين واخر، ليقذف بأوراق كراسات الدعاية، مقهقها:
  • خليها تطير بالبر، أفضل من ان تلوث شنطتي.
سعدي المتمرد، لا يرضخ للخوف، فعلى مدى ثمانين حولا، خاض شتى المعارك انتصارًا للوطن الحر والشعب السعيد، وظل وفيا لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية؛ فكسب محبة الملايين، وكرة الحاسدين، وضغينة كتاب وشعراء، عجزوا عن مقارعته في الإبداع الأدبي ، فاستلوا خناجرهم السياسية المسمومة.
إختار سعدي الوقت الذي يكتب، والمكان الذي يعيش، والساعة التي يسجل، والشعراء والكتاب والمواضيع التي يترجم.
تلال من الكتابات المورقة، يشمخ على قمتها سعدي؛ وننهل منها حتى الثمالة.
سعدي سلطان الخيارات، وسيختار اليوم والساعة،ويغمض عيونه مبتسما لمن سيراه في الحلم الاخير.
ياتي صوت سعدي عابرا البحار والصحارى والجبال ، أسمعه مع وجيف القلب، ويمتلكني الاسى، لكن كلماته الهامسة:
هاي هي… بعد كم يوم ويخلص كل شيء قال الاطباء!
كلمات مبتسرة تبعث في قلبي الاحساس بان سعدي ينتظر
النهاية، دون وجل.
خفوت سببه تفشي المرض بالرئتين، المثقلتين، بالام عقود من شهيق الآمال وزفير الخيبات في العراق المرتجى.
يترك سعدي إرثًا معرفيا، لا يعوض.
قصائده” المرئية” من نهايات الشمال الافريقي مرورا بالاخضر بن يوسف وحتى الليلة الاخيرة، يتغنى بها العاشقون، والحالمون، و الخائبون، الأنصار، والشهداء، وتصدح بها حناجر المنشدين.
المبتسرون وحدهم يكرهون
سعدي، لان الأقزام يجيدون، فقط، حكايات النساء.
مثل سعدي يوسف يولدون كل الف عام.