23 ديسمبر، 2024 1:03 ص

هذا الكتاب، لم اجده على منضدة مُنضّدةٍ في شارع المتنبي في بغداد كما لم اعثر عليه بين ركام الكتب التي تفترش ارصفة الساحة الهاشمية في عمّان، انما اثار انتباهي عندما ظهر على النشرة الدورية التي تبعثها لي، كعضوٍ فاعل في منضومتها، جمعية الكتاب والمؤلفين في بريطانيا “Society of Authors” ، حيث رشحت الجمعية الكتاب “الرواية” لجائزة احسن ترجمة من اللغة العربية الى اللغة الانكَليزية لهذا العام.
كنت اتمنى ان احصل على النسخة العربية اولاً ، ثم الانكَليزية للتمعن في فن الترجمة الناجحة بين اللغتين، الا ان غلق دور الكتب العربية في لندن بسبب “الكورونا” حدا بي الى طلب النسخة الانكَليزية المتوفرة على “امزون” اولاً.
ثلاثة ايام ويظهر الكتاب ضمن بريدي المتسارع بطبعته الورقية المتواضعة وعنوانه المثير للفضول. ومن الصفحة الاولى، بل من الاسطر الاولى للرواية تغيرت بوصلة اهتمامي بالموضوع، اذ لم يعد موضوع الترجمة وكفائتها من الناحية الفنية هو شاغلي في الكتاب، انما اصبحت الرواية ذاتها، موضوعها وعمق رسالتها وتداعيات احداثها هو ما استحوذ على جل اهتمامي بالكتاب. والرواية الناجحة كالقصيدة الناجحة، ينقلك الشاعر او الكاتب بضربة قلم الى اجوائه المعدة مسبقاً ليجرجرك بين مساربها كما يريد هو لا كما تتمناه انت كقاريء. واذا كانت القصيدة الناجحة هي فكرة مركزة ، او دوامة فكرة يقدمها لك الشاعر بصدق الاحساس، فالرواية الناجحة هي ألف دوامة صفيرة تدور حول دوامة كبيرة يقدمها لك كاتب الرواية فتغرق وتطفو مئات المرات تقترب فيها من الاعماق التي هي الحلقة السرية التي يتمسك بها الكاتب داعياً قرائه للدوران حولها بغية اكتشافها او بعضها.
الاستاذ عبد اللطيف وهو في ساعاته الاخيرة على فراش الموت يطلب من ابنه “بُلبل” ان يدفن رفاته في مقبرة قريته “العنابية” لترتاح عظامه قرب رماد اخته ليلى، وكاد ان يقول: قرب رائحتها، لكنه لم يكن متأكداً ان الموتى يحتفظون برائحتهم بعد اربعين عام. لذا آثر الصمت واغمض عينيه وغط في موت عميق. من هنا تبدأ رحلة بلبل الشاقة المعقدة التي آثر ان يشرك بها، كمسؤولية عائلية اخته فاطمة واخوه حسين. الحواجز، القصف الجوي، الطرق المقطوعة ، طوابيرالانتظار على ابواب المقرات الرسمية لاستحصال شهادة الوفاة او اذناً بالمرور الى الجانب الاخر من الحاجز، الرشاوي، نقاط التفتيش، ثم الاعتقال في غرفة قذرة مكتظة بالمعتقلين، وحجز الجثمان.
الوصف الدقيق الذي يقدمه الكاتب “خالد خليفة” لزنزانة الاعتقال يذكرني بقول الشاعر امريء القيس ” ايا جارتا إِنَّ الخُطُـوبَ تَنـوبُ” ويعيدني الى زنزانتي في قصر النهاية الرهيب في الوقت الذي كنت فيه يافعاً ادعو “للوحدة والحرية والاشتراكية”.
قالوا لنا “انكم جيل القدر” وانكم الجيل الذي سيوحد الامة ويحرر الارض. ولم نفطن في حينها للسموم الفاشية التي كنا نتلقاها باسلوب رومانسي خفيف محملة بعاطفة جياشة على طريقة “رأيت فيما يرى النائم”. قالوا لنا “انتم ضمير الامة” مما يضعنا فوق دائرة الحساب، “واننا عندما نرى الحقيقة في جانب، نقف معها، وينكر من اجلها الابن اباه والاخ اخاه”. فاتنا في ذروة حماسنا ان نقول لهم ان الحقيقة ذات وجوه متعددة وان هذا التلقين الفاشي سينقلب في المستقبل على الجميع ويحرق الوطن ويتركه حطاماً تحت الركام. وحال ما اعترضنا عليه عندما اصبحت الفاشية حقيقة واقعة تتأقلم وتتجذر من حولنا، عندها وجدنا انفسانا في زنزانات الامة الواحدة التي افنينا شبابنا من اجلها. الحالة واحدة في البلدين فعلى ذات المفاهيم الفاشية تحطمت سوريا وانهار العراق.
لم اكن بريئاً قبل قرائتي للرواية فقد سبق وان اطلعت على مقابلة متلفزة لضحية الارهاب الرسمي في سوريا الاستاذ مشيل كيلو. قالوا عنه للسجانين ” انه جاسوس اسرائيلي” تماماً كما كما قال لنا السجانون في قصر النهاية عن فؤاد الركابي مؤوسس حزب البعث في العراق بانه جاسوس وعميل. حينها همس في اذني احد رفاقي المعتقلين معي ساخراً: اننا كنا نناضل في حزب اسسه الجواسيس!
يقول الاستاذ ميشيل كيلو في المقابلة المتلفزة التي ابكت الاعلامية، وابكت من قبلها اربعين مستمعاً في ندوة عن حقوق الانسان في جنيف، حين قال ان الضابط السجان كان قد استحلفه ان لا يذكر لاحد اني عرفت من هو، لان في ذلك موته المحقق. ثم يأخذه السجان الى زنزانة يقبع فيها طفل عمره خمسس سنوات مع امه التي ولدته في السجن، والتي سُجنت كرهينة حتى يسلم ابوها المطلوب للسلطة نفسه، ويطلب السجان من الاستاذ ميشيل كيلو ان يقص حكاية للطفل الذي لم يشهد منذ ولادته النور. ويخرج الاستاذ مشيل كيلو على السجان ليقول له ان الطفل يجهل كل مفردات الطبيعة. الطفل لا يعرف ما تعني “شجرة” ولا يعرف ماذا تعني كلمة “عصفور” . بكى السجان واعاد الاستاذ الى زنزانته قبل ان يتنبه الى”جريمته” الاخرون .
“الموت عمل شاق” عمل روائي شاق جسد بواقعية رائعة معاناة شعب تحرك من اجل حريته وانسانيته، فواجهوه بما سموه بـ “الحل الامني”. قلت في خينها انهم يقصدون “الحل القمعي”. ولكن من الصعب على اي انسان سوي ان يتصور قسوة تلك الاجراءات المجردة من اي مشاعر انسانية الا بعد ان يقرأ رواية الكاتب خالد خليفة.
ملاحظة:
1- الجمل المقوسة بعد عبارة قالوا لنا ماخوذة من كتاب ميشيل عفلق “في سبيل البعث” الصادر عن دار الحرية في بغداد عام1986
2- لُفقت لفؤاد الركابي في ما كان يسمى محكمة الثورة بعد اكثر من سنة من التعذيب تهمة سُجن على اثرها 3 سنوات ثم تم اغتياله في السجن قبل اسبوع من انتهاء محكوميته. ذات رسالة خالدة.
2- سأرسل مقابلة الاستاذ مشيل كيلو عن تجربته مع الطفل في السجن لمن يطلبها اذا ما وفر لي الرابط المناسب.