لم يرُقْ ليَ التّحليق في يوم من الأيام، فأنا أنثى مولودة فلكياً في مدار برج (الدلو)، وهو برج ترابي يحتوي الماء ضمناً، أحب تلك الجبلّة ( تراب + ماء)، تسحرني رائحة طهر الأرض تيمّماً، فأراني ألاحق منابت خيراتها، كما أعشق يمّ البحرين وضوءاً، وأراني أشارك أسماكه طبقاتِه الطافية، أما السّماء، فأكتفي بالنّظر إليها، ليلاً أراقب القمر وهو يخون عشيقاته، يراقص كل نجمة منفردة ، يظن أنه بمنأى عن الأنظار، وأنا أهدّده دائماً بأنني سأشي به عند معشوقته الأزلية، الشمس، التي ما أحبّ حقاً غيرها، ولكن القدر حال دون التقائهما، إلى أجل رتّبه مالك الملك، أهدّد وأتوعّد، ولكن القمر يرشيني بجدائل من لجينه أزيّن بها مفرق رأسي يوماً ما، فأحجم، على معيار أن الرشوة من صغائر الموبقات مقارنة مع الوشاية، والفتنة نائمة ملعون من يوقظها.. يقال أن اللعنة لم يتحمّل شدّتها حتى إبليس، لذلك جازاه الله ووعده بها حين عصى …
أما نهاراً، فأكثر ما يلفتني في عالم السّماء، تلك الليرة الذهبية التي تهب طاقة الحياة لكل من دبّ على سطح البسيطة، تتملّقها السحب بألوانها المختلفة، تستجدي منها نطافاً، تسوقها إليها من بخر ماء الأرض، تلقّحها فتحبل…
هذا جلّ ما أحب أن أنظر إليه في مملكة السّماء، إضافة إلى مرأى الرعيّة التي تسعى في مناكبها فتغدو خماصاً وتعود بطاناً، وأكره كل من زاحمهم على ملكهم، إِلَّا من كان بينه وبينهم معاهدة تبادل مؤقت لأغراض سلمية وأهداف نفعية، بموجبها، تغرّدالطيور على أغصان الشجر، وتأكل من حبوب الأرض، وتنام في أعشاشها آمنة مستقرة، وعلى الجانب المقابل، تطير مخلوقات الأرض عابرةً الأجواء إلى أصقاع أخرى، مستفيدةً من قلة الزحام في السّماء… وما غير ذلك، هو احتلال رسمي واستعمار وتعدّ على ممالك الغير، لفت نظري مؤخراً هذا المدّ الكبير من الاحتلال! وبدافع من الفضول وحب الاستطلاع بدأت برصد هذه الحالة، تحليق كثيف لمخلوقات غيبيّة، خرجت من قوالبها المحسوسة تنشد حريةً كحرية الطير، لكن هل طيران الطيور هو حرية ؟ أم هو سعي من سبيل الرزق لضمان الاستمرارية ؟!
المهم أنني قررت أن أراقب تلك الكائنات المنفلتة من قيودها، مالت رقبتي كثيراً عن مستوى أفقي، تراجعت للوراء، حتى ظننت أن عنقي ضلع عمودي على ظهري القائم، استسخفت نفسي، فما جدوى هذه المراقبة؟ فما هي إلا كائنات ناقصة، تحاول تقليد أهل السّماء، لكنها لا تتقن التوازن ، لا تملك البراعة، تهيم على وجوهها، كالخفافيش في كهف أضيء فجأة، حاولت استحضار المتعة التي ينشدونها، هل أرادوا الخروج إلى علٍ لمسح سطح الأرض بنظرة شاملة ؟ لكانت الطائرة وسيلة تكنولوجية متطورة وسهلة عن ذلك التّحليق المتعب الذي يفصل عنصرين عن بعضهما بعملية شطر مؤلمة، و قد تكون مميتة حين تعجز تلك الأرواح المحلّقة عن دخول مسكنها الترابي في رحلة الإياب، وإن كانت هروباً فالأحلام أولى بذلك، جعلها البارئ صمّام أمان في منظومة المخلوقات الأرضية العاقلة والغير عاقلة، تؤمّن عوداً حميداً وآمناً بعد تحليق نسبي، وأنا في سرحاني هذا، أحسست أن رقبتي قد عُلّقت إلى السّماء وأن حبلاً أحاط بها كمشنقة، وأن منصة اليباس تحتي أكلها جريان ماء زعزع استقرارها، حيث غدا التراب طيناً انزلقت عليها قدمي، ومت شنقاً ….