18 ديسمبر، 2024 11:29 م

الموت….بين الفلاسفة والشهيد الصدر الثاني

الموت….بين الفلاسفة والشهيد الصدر الثاني

من اكثر الأمور حساسية هو الحديث عن الموت كما انه من اكثر المواضيع صعوبة أيضـاً ، لأن التعـاطي معه خارج الإطـار الديني يسبب مشـاكل فكـرية وعقائديـة للعديد من المؤمنين المتديّنين من ناحيــة .. والتحدث عنه خارج الإطــار العلمي ، يؤدي أيضـاً إلى تشنّج العلمييــن الذين يؤمنون بالجانب المـادي العضــوي في تفسير كل ظواهر الكون من ناحية اخرى …
فالخوف من الموت والنفور منه كان إحدى العلل الدافعة نحو تكوين الفلسفة المتشائمة. والفلاسفة المتشائمون يتصورون الحياة والوجود بلا هدف وخالية من الفائدة وعارية عن الحكمة وقد أوقعهم هذا التصور في لجج الحيرة والاضطراب وأحياناً ألقى في أعماقهم فكرة الانتحار.
وإذا كانت الفلسفات القديمة قد انشغلت بالموت كمفهوم أنطولوجي شامل في سياق علاقة الجــسد بالروح مع تــباين واضح في القــبول بالتفـــسير الميتافيزيقي المتعالي أو رفضه، فإن الفلسفة المعاصرة قد واصلت أسئلتها حول الموت ولكن بإيقاعات مختلفة مع استحضار للتراكم الفكري القديم كمرجعية أساسية لم تفتقد طراوة التأمل وإمكانيات التفسير.
يوجد الكثير من الفلاسفة والشعراء والكتاب تكلموا عن الموت ووضعوا اراءهم وافكارهم على طاولة البحث والنقاش
باسكال :
رأي باسكال كان عن الموت هو ان الخير لنا في هذه الحياة هو ان نأمل في حياة اخرى
ولا يكون المرء سعيداً إلا بقدر اقترابه من هذا الامل ..يأمل بوجود حياة خير من هذه الحياة وسعادة المرء تكمن في اقترابه من هذا الامل عن طريق الموت
باروخ اسبينوزا :
رأي اسبينوزا هو ان لا نفكر بالموت وان العقل البشري لا يمكن تدميره بصورة مطلقة :
” العقل البشري لا يمكن تدميره بصورة مطلقة مع الجسم , لكن شيئاً خالداً يبقى منه “
أي ان ديمومة العقل زمنيا بوجود فعلي للجسم أي الا بقدر ما يدوم ،لكنه يرى شيئا تقتضيه ضرورة خالدة معينة “ماهية الاله” وسيكون ازليا بالضرورة
كانط “كانت”  :
غالبا ما يثبت الوجود بحجج  اخلاقية ويعتبر الموت قناعا يخفي نشاطا اكثر عمقا  واقوى مغزى يرى انه ليس هناك حدا للحياة بل هي خالدة  ” علي ان أقوم بمهمتي فليس هناك حد لحياتي ,إنني خالد “
شوبنهاور :
ان المعاناة هي بجلاء المصير الحقيقي للانسان كما يقول انه يتعين النظر الى الموت باعتباره الهدف الحقيقي للحياة لأنه في لحظة الموت فإن كل ما تقرر حول مسار الحياة بأسرها ليس الى إعداداً ومقدمة فحسب و الكفاح الي تجلى في الحياة على نحو عابث وعقيم ومتناقض مع ذاته تعد العودة من رحابه خلاصاً .
نيتشه :
رأي نيتشه عن الموت يعبر فيه بنظرية العود الأبدي التي تقول بإن كل شيء يموت وكل شيء يعود وكل الاشياء حتى نحن انفسنا كنا مرات عديدة لا حصر لها حسب اعتقاده :
“ما من وقت ينقضي بين لحظة وعيك الأخيرة و أول شعاع لفجر حياتك الجديدة , ومثلما لمعه البرق سينزاح المكان “

الموت عند الصوفية
الموت عند الصوفية هو الحجاب عن انوار المكاشفات
 و هو مغادرة العالم الدنيوى والانتقال الى العالم الاخروى , فيقصد به ان احباء الله لا يموتون , وانما هم فقط ينقلون من دار الى دار , من دار الفناء الى دار البقاء , الى الحياة الابدية .                                                               
ويصنف اهل التصوف الموت اصناف اربعة : الموت الاحمر , وهو مخالفة النفس , والمسمى بالجهاد الاكبر . والثانى : الموت الابيض , وهو الجوع , وسمى بذلك لانه ينور الباطن , ويبيض وجه القلب . والثالث : الموت الاخضر , وهو لبس ما يستر العورة , وتصح فيه الصلاة , وسمى اخضر لاخضرار عيش صاحبه بالقناعة .الرابع : الموت الاسود , وهو احتمال الاذى من الخلق , والصبر على احوالهم , وسلوكهم فى المعاشرة .                                                                         وهكذا , يكون الموت عند الصوفية هو محاولة لاكتشاف العنصر الروحى الكامن بداخلهم , وذلك من اجل فهم افضل لمعنى الحياة والموت , فيظهر لهم ان الحياة الحقيقية انما تكون فى الحضرة الالهية , مستغرقة نفوسهم فى الله ومع الله وبالله , وان الموت الحقيقى ليس تغيرا مفروضا على الذهن , ولا تشتتا يجرى على البدن , ولكنه مفارقة وانفصال النفس عن موطنها الالهى .

  الموت في منظور الشهيد الصدر الثاني
انطلق الصدر حول مفهوم العبادات والمعاملات والمسائل  الاسلامية الاخرى  من منظور الفهم الواعي الاجتماعي ووعيا كونيا طافحا بالنور والحياة ولا وعي من دون عبادة او عبادة من دون وعي
محمد الصدر يعطي املا وارتياحا للمصير الذي يتخوف منه الجميع ويجعل منه باب للرحمة الالهية …وباعثاَ للأمل المُثمر البنّاء وقد وضّح الصدر المفهوم الصالح للموت الذي يُزعج الحياة العادلـــة  من خلال تعرّضه  الى الموت في احدى كتاباته القيّمة من خلال الناحية الاجتماعية للفرد الحي الذي يشاهد هذه الظاهرة يوميا  ، بأعتبارها اوضحها وعيا والصقها بميدان العمل الحي الاسلامي البناء
فالحياة نشأة قصيرة تمهيدية للنشأة الكبرى والموت الحد الفاصل بين هاتين النشأتين أي الحد الفاصل بين القطرة والبحر والومضة والشمس كدودة القز حين تلفّ حول نفسها خيوط الحرير لتتحول من حالتها الاولى كدودة تدبّ على رجلين، الى فراشة تطير بجناحين .
للموت خصوصية في منظار الاحيـــاء انها أعم ظــاهرة في الحياة وأعمقها في الاذهان واكثرها اضطرارا وقسرا وتأثيرا في الفرد الحي…
الموت له تأثير في جانبين مهمين في المعطى الواعي في نفس المسلم
الجانب الاول :
تأثيره من حيث الاحساس الايمانية ويتمثل في عدة حقول مهمة منها
1- الاحساس المباشر بالعالم الميتافيزيقي الكامن وراء الطبيعة لان الفرد الاعتيادي في هذه الحياة لمدى ارتباطه بمحسوساته ومكانه وزمانه وحدوده ومصالحه بعيد عن تصور هذا العالم الى حد سهّل انكاره على جملة الماديين والملحدين
2- الاحساس بالذل امام الله عزّ وجل فان الانصياع الاضطراري امام القهر الالهي العظيم يوجب حتما بالذل امام القدرة القاهرة .
3- الشعور بالمساواة بين الناس كأسنان المشط امام القهر الالهي لا يختلف حال الغني عن الفقير  او عالم وجاهل او تقي وفاسق
الجانب الثاني : يتمثل في الجانب السلوكي العملي للفرد
1- جعله رافعا وباعثا على العمل الخيّر
2- اغتنام العمر القصير الضئيل ويستطيع الانسان ان يقرر مصيره في ذلك الابد الطويل اما السعادة الدائمة او الشقاء السرمدي
3- الصبر على البلاء والمحن والمصاعب عندما يقارن هذه القطرة ن الحياة بالحياة الابدية فهي اهون من ان يُنظر اليها
يتوسع السيد الشهيد الصدر في قراءته لهذه الفكرة الواعية ويرى انها كفيلة بكفكفة رهبة الانسان من الموت وتقليل درجة الخوف ومعالجة هذا الامر بــــــــ
مكافحة استشراء الغفلة ودوامها ،وعدم الاعتراض على القدر الالهي
فهو طريق بين مرحلتين وجسرا بين نشأتين ،وان موت الانسان مطابق للمصلحة العامة بل الضرورة البشرية فاذا كان عدم الموت فأنه سيقف كل سبعين شخصا على شبر من الارض وكثرة المشوهين وقلة الارزاق والمجاعة وغير ذلك من الويلات .
فقد اعطى الصدر الاطروحة الواعية للموت التي تصنع من الموت حياة وخير ونفعا واعيا بنّاء والاطاحة بنظرية اليأس والقنوط فهذه ثمرة كبرى مدهشة للوعي الاسلامي للتعاطي مع هذه الظاهرة المرعبة التي يتخوّف منها الجميع دون استثناء