23 ديسمبر، 2024 10:37 ص

المواعظ القرآنية

المواعظ القرآنية

-1-
انتهاكاتُ الحكام والسلاطين للخطوط الحمراء، ومقارفاتهم المحرمة لشتى المظالم والعظائم، وتجاوزاتهم على القيم والموازين طبقاً لأهوائهم ونزعاتهم رهيبة ،ومن الصعب الإحاطة بها لكثرتها وتنوّعها وامتدادها على مدار التاريخ .

فكم من دماءٍ بريئة سُفِكَتْ ظلماً وعدوانا،

وكم من أموالٍ صودرت ونهبت دون وَجْهِ حقٍّ ،

وكم من أعراض انتهكت من دون مبالاة ،

وكم من قرارٍ طائش أُلزم به الناس دون ان يكون له مبرر معقول أو وجه مشروع .

والكثير من السلاطين يختصرون البلاد والعباد بذواتهم وعلى رؤوس الرافضين التراب ..!!

ألم يعتبر (القائد الضرورة) المقبور، العراق كلَّهُ ، بشعبه وموارده، شيئاً من أشيائه التي يتصرف بها كيف ماشاء دون ان يكون لأحد حق الاعتراض …

وبلغت به الحماقة ان يكتب القرآن بدمه، مع ان الدم من النجاسات، والقرآن كتاب لا يَمَسُه الاّ المطهرون …

ان الطواغيت يشرّعون الأحكام كما يشتهون ، فيحللون حرام الله ويحرمون حلاله .

ان ثورة الانبياء على الجبابرة والفراعنة، كانت لانقاذ البشرية من براثن

الظلم والانحراف، ورغم ان (العلماء ورثة الانبياء ) الاّ أن من يتصدى منهم للطواغيت قليلون ، لايشكلّون الاّ نسبة ضئيلة تمثل الصفوة ويؤثر معظمهم العافية ،خشية على أنفسهم ومصالحهم .

وقد قال تعالى (ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)

وروى عنه (ص) أنه قال : { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده }

وقال الامام علي (ع) { وما اخذ الله على العلماء الا يُقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم }

ومع ذلك كلّه فان ” المهانة ” و “المجاملة” حلّت محلّ النصيحة الصادقة ، والصرخة الهادرة بوجه السلاطين مع استثناءات ليست بالكثيرة، ابتداءً (بأبي ذر وأضرابه –رضوان الله عليهم ) وانتهاءاً بالامام الشهيد آية الله العظمى المرجع الاسلامي الخالد السيد محمد باقر الصدر – نور الله ضريحه- والكوكبة الساطعة من طلابه ومريديه من العلماء والفضلاء وعيون الرجال والنساء – رحمهم الله جميعاً – .

-2-

ومن أروع ما دوّنه لنا التاريخ موقف (منذر بن سعيد ) – قاضي قرطبة وخطيب الجمعة فيها – أيام عبد الرحمن الناصر الذي بنى مدينته (الزهراء) في الاندلس ، وجعل منها (الصرح المُمرد) واتخذ لِقُبَتِهِ قراميد من الذهب والفضة .

لقد أسرف هذا السلطان في أموال الدولة وأنفقها بعيداً عن الحسابات الشرعية والأخلاقية، مدفوعاً بدافع الأهواء الشخصية، في ان يتميّز على غيره من السلاطين بل على الناس أجمعين .

لقد كان عبد الرحمن الناصر يحضر صلاة الجمعة في المسجد الجامع ،

ويستمع الى خطبة القاضي منذر بن سعيد ، الذي ضاق ذرعاً بما رآه من إسراف السلطان ، وتبديده لثروة البلاد في مآربه الشخصية ، فانتهز الفرصة المتاحة – وهي خطبة الجمعة – لتقريع السلطان واستذكار اسرافه وانتهاكه في بناء مدينته العجيبة …

فكان أنّ تلا قول الله تبارك وتعالى :

{ أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . واذا بطشتم بطشتم جبّارين . فأتقوا الله واطيعون . واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون. أمدّكم بأموال وبنين . وجناتٍ وعيون . إنيّ أخاف عليكم عذابَ يوم عظيم } الشعراء 128 – 135

ثم قرأ قوله تعالى :

{ متاع الدنيا قليل والآخرة لمن أتقى ) النساء /77

ولم يكتف بما قرأ من آيات الله البيّنات التي انتقاها ببراعة ، بل راح يندّد بما شيّده السلطان وما أنفق على مدينته حدَّ السرف ، وكان منطلقاً من إحساسه بالمسؤولية الشرعية الملقاة على عاتقِهِ فَزَمْجَرَ بخطبته الهادرة غيرَ وَجِلٍ ولاهيّاب .

وللقرآن الكريم تأثيرُه العميق في النفوس ، فخشع القوم وبكوا وضجوّا .

ثم التفتَ الى السلطان ، وقال له والمصلون يستمعون .

ما ظننتُ أنَّ الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ،

ولا ان تمكنه من قيادتك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله وفضّلَك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين .

فاقشعر الناصر من قوله وقال :

أنظر ما تقول ؟

كيف أنزلتني منازلهم ؟

قال :

نعم

أليس الله تبارك وتعالى يقول :

( ولولا ان يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسُرُراً عليها يتكئون )

الزخرف 33 – 34

فوجم السلطان ، ونكسّ راسه مليّاً ودموعه تجري على لحيتهِ خشوعاً لله تعالى ونَدَماً على ما فَعَل .

وهكذا تفعل الموعظة القرآنية فعلها .

ثم ان السلطان – وهذا هو المهم – أقبل على قاضيه ” منذر بن سعيد ” بعد انتهاء الخطبة والصلاة وقال له :

جزاك الله خيراً عنا وعن المسلمين والدين وكثّر في الناس أمثالك ، فالذي قلت والله هو الحق .

وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى ،

وأمر بأن يُنقض سقفُ القبّة لتكون قراميدُها تراباً، بعد ان كانت من الذهب والفضة .

أقول :

أين الوعّاظ من طراز (ابن سعيد) في جرأته وصدقه في المواجهة ؟

وأين أضراب (الناصر) ممن يرضخ للحقّ ويستجيب له ؟

وأين هي ” المواعظ القرآنية ” التي تقرع القلوب القاسية فتجعلها تلين وتخشع ؟

*[email protected]