-1-
انتهاكاتُ الحكام والسلاطين للخطوط الحمراء، ومقارفاتهم المحرمة لشتى المظالم والعظائم، وتجاوزاتهم على القيم والموازين طبقاً لأهوائهم ونزعاتهم رهيبة ،ومن الصعب الإحاطة بها لكثرتها وتنوّعها وامتدادها على مدار التاريخ .
فكم من دماءٍ بريئة سُفِكَتْ ظلماً وعدوانا،
وكم من أموالٍ صودرت ونهبت دون وَجْهِ حقٍّ ،
وكم من أعراض انتهكت من دون مبالاة ،
وكم من قرارٍ طائش أُلزم به الناس دون ان يكون له مبرر معقول أو وجه مشروع .
والكثير من السلاطين يختصرون البلاد والعباد بذواتهم وعلى رؤوس الرافضين التراب ..!!
ألم يعتبر (القائد الضرورة) المقبور، العراق كلَّهُ ، بشعبه وموارده، شيئاً من أشيائه التي يتصرف بها كيف ماشاء دون ان يكون لأحد حق الاعتراض …
وبلغت به الحماقة ان يكتب القرآن بدمه، مع ان الدم من النجاسات، والقرآن كتاب لا يَمَسُه الاّ المطهرون …
ان الطواغيت يشرّعون الأحكام كما يشتهون ، فيحللون حرام الله ويحرمون حلاله .
ان ثورة الانبياء على الجبابرة والفراعنة، كانت لانقاذ البشرية من براثن
الظلم والانحراف، ورغم ان (العلماء ورثة الانبياء ) الاّ أن من يتصدى منهم للطواغيت قليلون ، لايشكلّون الاّ نسبة ضئيلة تمثل الصفوة ويؤثر معظمهم العافية ،خشية على أنفسهم ومصالحهم .
وقد قال تعالى (ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)
وروى عنه (ص) أنه قال : { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده }
وقال الامام علي (ع) { وما اخذ الله على العلماء الا يُقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم }
ومع ذلك كلّه فان ” المهانة ” و “المجاملة” حلّت محلّ النصيحة الصادقة ، والصرخة الهادرة بوجه السلاطين مع استثناءات ليست بالكثيرة، ابتداءً (بأبي ذر وأضرابه –رضوان الله عليهم ) وانتهاءاً بالامام الشهيد آية الله العظمى المرجع الاسلامي الخالد السيد محمد باقر الصدر – نور الله ضريحه- والكوكبة الساطعة من طلابه ومريديه من العلماء والفضلاء وعيون الرجال والنساء – رحمهم الله جميعاً – .
-2-
ومن أروع ما دوّنه لنا التاريخ موقف (منذر بن سعيد ) – قاضي قرطبة وخطيب الجمعة فيها – أيام عبد الرحمن الناصر الذي بنى مدينته (الزهراء) في الاندلس ، وجعل منها (الصرح المُمرد) واتخذ لِقُبَتِهِ قراميد من الذهب والفضة .
لقد أسرف هذا السلطان في أموال الدولة وأنفقها بعيداً عن الحسابات الشرعية والأخلاقية، مدفوعاً بدافع الأهواء الشخصية، في ان يتميّز على غيره من السلاطين بل على الناس أجمعين .
لقد كان عبد الرحمن الناصر يحضر صلاة الجمعة في المسجد الجامع ،
ويستمع الى خطبة القاضي منذر بن سعيد ، الذي ضاق ذرعاً بما رآه من إسراف السلطان ، وتبديده لثروة البلاد في مآربه الشخصية ، فانتهز الفرصة المتاحة – وهي خطبة الجمعة – لتقريع السلطان واستذكار اسرافه وانتهاكه في بناء مدينته العجيبة …
فكان أنّ تلا قول الله تبارك وتعالى :
{ أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . واذا بطشتم بطشتم جبّارين . فأتقوا الله واطيعون . واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون. أمدّكم بأموال وبنين . وجناتٍ وعيون . إنيّ أخاف عليكم عذابَ يوم عظيم } الشعراء 128 – 135
ثم قرأ قوله تعالى :
{ متاع الدنيا قليل والآخرة لمن أتقى ) النساء /77
ولم يكتف بما قرأ من آيات الله البيّنات التي انتقاها ببراعة ، بل راح يندّد بما شيّده السلطان وما أنفق على مدينته حدَّ السرف ، وكان منطلقاً من إحساسه بالمسؤولية الشرعية الملقاة على عاتقِهِ فَزَمْجَرَ بخطبته الهادرة غيرَ وَجِلٍ ولاهيّاب .
وللقرآن الكريم تأثيرُه العميق في النفوس ، فخشع القوم وبكوا وضجوّا .
ثم التفتَ الى السلطان ، وقال له والمصلون يستمعون .
ما ظننتُ أنَّ الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ،
ولا ان تمكنه من قيادتك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله وفضّلَك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين .
فاقشعر الناصر من قوله وقال :
أنظر ما تقول ؟
كيف أنزلتني منازلهم ؟
قال :
نعم
أليس الله تبارك وتعالى يقول :
( ولولا ان يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسُرُراً عليها يتكئون )
الزخرف 33 – 34
فوجم السلطان ، ونكسّ راسه مليّاً ودموعه تجري على لحيتهِ خشوعاً لله تعالى ونَدَماً على ما فَعَل .
وهكذا تفعل الموعظة القرآنية فعلها .
ثم ان السلطان – وهذا هو المهم – أقبل على قاضيه ” منذر بن سعيد ” بعد انتهاء الخطبة والصلاة وقال له :
جزاك الله خيراً عنا وعن المسلمين والدين وكثّر في الناس أمثالك ، فالذي قلت والله هو الحق .
وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى ،
وأمر بأن يُنقض سقفُ القبّة لتكون قراميدُها تراباً، بعد ان كانت من الذهب والفضة .
أقول :
أين الوعّاظ من طراز (ابن سعيد) في جرأته وصدقه في المواجهة ؟
وأين أضراب (الناصر) ممن يرضخ للحقّ ويستجيب له ؟
وأين هي ” المواعظ القرآنية ” التي تقرع القلوب القاسية فتجعلها تلين وتخشع ؟