في جميع الدول ، توجد التزامات مالية في الموازنات العامة يتوجب على المواطن والمقيم في الدولة الإيفاء بها خلال السنة المالية ومن خلال الأجهزة الحكومة ، وفي مقدمتها الضرائب والرسوم المختلفة وأجور الخدمات التي تقدمها الحكومة للعموم ، والوظيفة الأساسية المعلنة لهذه الالتزامات هي تنظيم النشاط العام في المجتمع على الرغم من معرفة الجميع بان وظيفة التنظيم هي ذات نطاق ضيق جدا ، وبإمكان الحكومات استخدام أساليب أخرى غير الالتزام المالي ، ولكن تبقى وظيفة التنظيم هي الحجة المستخدمة لتحقيق الوظائف الفعلية الحقيقية للإلزام المالي وفي مقدمتها وظيفتي التمويل والسلطة ، وفي الدول التي تعتمد منهج الاقتصاد الحر تكون أغلب الثروة العامة ملك للشعب بأفراده وشركاته ومنظماته ، ولأن الدولة تمارس مهامها فانه يتوجب على المواطن والمقيم دفع الأموال اللازمة لتوفير متطلبات ممارسة الدولة لواجباتها في توفير احتياجات البلد وزيادة رفاهيته بمختلف السلطات ، وكلما كانت الدولة ناجحة في مهامها كان المواطن مسئولا وراغبا في تسديد التزاماته المالية ، واغلب المواطنين في الدول التي تعنى برفاهية الأفراد نجد لديهم إقبالا على تسديد التزاماتهم لدرجة إن البعض يعدها من الأمور ذات الأسبقية كتسديد الضرائب ، فالمجتمع عندهم يعتبر التهرب الضريبي من العلامات السيئة وليس ( شطارة ) كما يعتقدها البعض .
أما في الدول الشمولية التي تكون فيها الحكومة المالكة للجزء الأكبر من الثروة العامة ( سواء جاءت هذه الملكية من خلفية اشتراكية أو ملوكية أو عسكرية أو دينية) ، فان الحكومة ليست بحاجة حقيقية للتمويل بحكم امتلاكها للثروة وهي تستطيع توفير احتياجات البلد من خلال إدارة هذه الملكية من دون حاجة لتمويلها من قبل الشعب باعتباره ترك ثروته العامة تحت سلطة وتصرف الحكومة ، وبما إن الحكومة تمتلك اغلب الأراضي وما فيها من ثروات وطاقة ونفط ومعادن ومياه وأجواء ، فهي مسؤولة عن تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع من دون مطالبته بدفع أثمانها باستثناء الإجراءات التنظيمية التي ( ذكرنا ) والتي غالبا ما تكون محدودة جدا . وعلى الرغم مما تتناوله الكتب والنظريات حول وظائف الالتزامات المالية فإنها في حقيقة الأمر تكون مقتصرة على الدول ذات المنهج الاقتصادي الحر وان انطباقها على الدول الشمولية مخادعة كبيرة وتضليل عام ، فوظيفة الالتزامات المالية في الدول الشمولية هي وظيفة سلطوية في المقام الأول ، ويستعرض التاريخ البشري آلاف القصص عن الملوك والسلاطين والحكام الطغاة الذين استولوا على ثروات الشعب العامة ، ولكنهم استخدموا الضرائب والرسوم وأجور الخدمات الحكومية وإجراءاتها بهدف إذلال الشعب وإفقاره وإجباره على التبعية المطلقة لسلطة الحاكم الطاغية ، بمعنى إن الغرض هو سلطوي أكثر من كونه اقتصادي .
ومن الغريب في قصص التأريخ ، إن الكثير من هؤلاء الحكام عندما يمر بلدهم في ظروف صعبة يقومون بزيادة الضغط على الشعب ومحاولة فرض أكبر قدر من الالتزامات المالية بدلا من الصرف على الشعب من خزائنهم الخاصة وغالبا ما تكون النتيجة هي خسارة الحكم وضياع البلاد والعباد ، وقصة المستنصر بالله ( آخر خليفة عباسي ) من أبرز الشواهد التاريخية العربية على هذه التصرفات التي أدخلت العراق في عصر مظلم بعد سقوط بغداد على يد هولاكو ، واليوم وفي ظل التراجع الكبير في أسعار النفط وما يمثله الانخفاض من تقليل للواردات النقدية للدول النفطية ، نجد موقفين متناقضين لهذه الدول ، فالدول التي تمتلك قرارها المستقل لجأت إلى الحل السليم وسمحت لعملاتها المحلية بالانخفاض وفقا للمعادلة الحقيقية لسعر النفط بالدولار ولم تحمل مواطنيها عبء هذا الانخفاض ، ومن المتوقع جدا إنها ستخرج من هذه الأزمة مستفيدة لان نشاط الإنتاج المحلي فيها اكتسب قدرات تنافسية عالية نتيجة لانخفاض سعر العملة المحلية قياسا بالدولار ، وبالتالي ازداد النشاط الاقتصادي فيها وازدادت قوتها التصديرية في ظل حرب العملات السائدة حاليا ، وحتى لو ازدادت أسعار النفط مستقبلا ، فهي سوف لن تسمح لعملاتها المحلية بالارتفاع ولن تفرط بهذه الفرصة التي جاءتها لتعوضها عن الخسائر النقدية بالدولار .
أما في الدول التي تدور في فلك السيطرة الرأسمالية ، فإنها بقت مصرة على أسعار عملتها بالقيمة نفسها تحت حجج مصطنعة ومقصودة ، وبسبب انخفاض أسعار النفط وبقاء سعر العملة المحلية كما هو واعتماد هذه الدول لأسلوب الدولرة من خلال ربط اقتصادها المحلي بالدولار ، فان الضغوطات المالية عليها تصبح كبيرة وغير محتملة ، مما يلجئها لاستخدام سياسات تقشفية تصيب اقتصادها بالركود أو الكساد ثم اللجوء إلى زيادة الضرائب والرسوم والأجور والمبالغة في تحصيلها من دون مراعاة لظروف الكساد التي يمر بها المواطن ، وطبعا فان حكومات هذه الدول لا تجهل مخاطر زيادة ضغوط الالتزامات المالية على شعوبها ولكنها غير مهتمة بهذا الأمر ، لان الهدف النهائي لهذه السياسة هو سحب اكبر قدر من السيولة النقدية المتاحة للشعوب لتذهب إلى البنوك العالمية والدول المصدرة للسلع ، وهذه هي سياسة الإفقار التي تتكرر كل بضعة سنوات ويلعب فيها سعر النفط دور المصحح لتراكم الثروة واستردادها من الدول النفطية الشمولية لصالح النظام العالمي