كثر الكلام في العراق منذ مدة غير قصيرة عن مبدأ المواطنة، بحيث أخذت تلوكها حتى القوى السياسية الناقضة لهذا المبدأ، كما أخذت تدعي المدنية، وهي على النقيض من ذلك.
في هذه المقالة سأوضح التلازم تارة بين المواطنة والمساواة، وتارة أخرى بين المواطنة والعلمانية، وسأوضح أسباب زعمي بشكل خاص بالتلازم الثاني.
«المواطنة» ابتداءً ومن الناحية اللغوية من «المُواطِن»، و«المواطن» من «الوطن». وكلمة «مواطنة» هي مصدر الفعل الرباعي (واطَنَ، يُواطِنُ، مُواطَنةً)، و«مُواطِن» هو اسم الفاعل لهذا الفعل. وعندما يقال فلان واطن، فلا بد من مفعول به، لأن فعل (فاعَلَ يُفاعِلُ مُفاعَلَةً أو فِعالاً) هو فعل متعدِّ إلى مفعول، أي إن المواطن يواطن مواطنين آخرين، أي يشاركهم في الوطن أو المواطنة.
وحتى المواطنة باللغات الأورپية لا تبتعد عن هذا المعنى، وإن اختلفت كمفردة لغوية، فهي (Citizenship) بالإنگليزية مأخوذة من City المدينة، و(Bürgerlichkeit) بالألمانية مأخوذة من Burg بمعنى القلعة، حيث كانت تسمى الكثير من المدن بأسماء قلاعها، وحتى بالعربية، كانت المدينة هي التي تعتبر الوطن، ثم اتسع مفهوم الوطن إلى ما نعرفه اليوم بالبلدان كبلد العراق.
ثم إن «المواطنة» ليس كمصطلح سياسي، بل كمصطلح فيما هي الأحوال المدنية، كان يجب أن يكون المصطلح البديل لما يصطلح عليه عندنا في الأحوال المدنية بـ «الجنسية»، فيفترض أن يقال إن فلانا يحمل (المواطنة) العراقية، وليس (الجنسية) العراقية، لأن ثقافة الأجناس لم تعد من مفردات ثقافة الحداثة في هذا المجال على وجه الخصوص. وهكذا ينبغي استخدام «التوطن» بدلا من «التجنس».
البعض يخلط بين المواطنة والوطنية، فالوطنية غير المواطنة، رغم إن هناك بكل تأكيد مشتركات بينهما. فالوطنية تعني فيما تعني حب الوطن، أو الإخلاص والولاء للوطن. لذا فالنقيض لـ «الوطني» هو «اللاوطني» وهو ما يعبر عنه بـ «الخائن»، فهناك (وطنيون) وهناك (خونة)، وغالبا ما يوسم المتطرفون المخالفين لهم بالخيانة، وهذه من إفرازات ثقافة احتكار الحق والحقيقة، ونفي الآخر. وإن كانت هناك حالات تعد من الخيانة الوطنية، لست بصدد شرح شروط انطباقها. فالمواطن ينطبق على المواطن الوطني والمواطن غير الوطني.
وليس كل من لا تنطبق عليه صفة «الوطني» هو خائن بالضرورة، فالعلاقة بين الخائن (اللاوطني) وغير الوطني هي علاقة خصوص وعموم مطلق، فكل خائن هو ليس وطنيا، لكن ليس كل غير وطني هو خائن بالضرورة.
وكذلك ليس كل وطني يعتمد المواطنة، وإن كان عدم اعتماده للمواطنة يمثل خللا بقدر يزيد أو يقل في وطنيته. فثمة وطني، أو هكذا يعتقد بنفسه، نراه يقدم بالدرجة الأولى هويته الجزئية على هوية المواطنة، فيبقى شيعيا، سنيا، عربيا، كرديا، مسلما، غير مسلم، وهكذا هو مع الهويات الجزئية الأخرى.
المواطنة لا تلغي بطبيعة الحال الهويات الجزئية، بل تكون حاضنة لها، وراعية وحامية لها، ذلك على أساس (التنوع في إطار الوحدة)، أو الوحدة المتنوعة. لكن مبدأ المواطنة يوجب جعل الأولوية للمواطنة، خاصة فيما هو الشأن العام (على رأسها السياسة وشؤون الدولة)، خارج إطار الشأن الشخصي.
وبلا شك هناك درجات للمواطنة. الدرجة الدنيا المطلوبة ألا تتقدم الهوية الجزئية على هوية المواطنة خارج إطار الشأن الخاص. لكن هناك درجة عليا، هي ألا يكتفى بعدم تقديم الهوية الجزئية (الدينية، المذهبية، القومية، العشائرية، المناطقية) في علاقاته ونشاطاته العامة، بل حتى في حياته الخاصة. وهذه الدرجة المتمناة لا يجوز فرضها على أحد، بل يروج لها ويثقف عليها، لأنها قضية مشاعر، ولا تملك الدولة أن تتحكم بمشاعر المواطنين.
ومن هؤلاء الذين تجاوزا اعتماد المواطنة في الدرجة الدنيا وفي الشأن العام حصرا، معتمدين الدرجة العليا، من يتخلى حتى في حياته الخاصة من حيث الفكر والشعور عن الهويات الجزئية، فتراه لم يعد يعتبر نفسه على سبيل المثال عربيا، بل يعتبر نفسه من الناطقين بالعربية. وهكذا تراه ربما لم يعد يشعر بالانتماء لهذه أو تلك الطائفة، لا عقائديا ولا اجتماعيا، بل لم يعد يشعر بانتمائه إلى أتباع دينه إلا بمقدار كونهم مواطنين. لكن في نفس الوقت نجد للأسف الشديد ومع شديد الغرابة الازدواجية متفشية في مجتمعنا، بحيث حتى اللاإلهي (أي الملحد) نراه لا يستطيع التخلص من إحساسه بشيعيته أو بسنيته.
هذا على صعيد المواطن كفرد، أو كعضو في جماعة (المواطنة)، أي ما نصطلح عليه بالشعب. أما سياسيا، فينبغي ألا يجوز تقديم أي هوية جزئية على المواطنة. فإذا اعتبر تقديم المواطن العادي لهويته الجزئية على المواطنة، فهذا خلل عنده في تجسيد انتمائه للجماعة (المواطنين)، لكن لا حق للدولة أن تسلبه هذا الحق، فالدولة لا تستطيع أن تفرض على مواطنيها أن يكونوا مواطنين مثاليين، حتى تعدهم مواطنين، وتعاملهم على قدم المساواة مع غيرهم.
في الحلقة القادمة تتناول المقالة المواطنة على صعيد سلوك السياسي.