يحدثنا تاريخ العراق القديم وبفخر عن الصمود المتواصل للشعب العراقي بوجه حملات الغزو والاحتلال الأجنبية كافة التي كان يتعرض لها. ويحدثنا التاريخ كذلك عن مقدرته على امتصاص أثارها مهما طال الزمن ، ليخرج بعد ذلك متعافي منها. ويروي لنا التاريخ إن سر الصمود الذي يمتلكه الشعب العراقي للوقوف بوجه الغزو والاحتلال الأجنبيين ومقاومتهما على مر العصور ، يستند إلى الثقافة الراقية التي يتحلى بها تقليديا المجتمع العراقي بالإضافة إلى الأخلاق الرفيعة والقيم النبيلة والعالية السائدة بين عموم المواطنين والارتباط المتين للمواطن بالوطن ، فضلا عن الدور اليقظ والوطني للنخب العراقية المتنوعة الثقافية والاجتماعية والسياسية في توعية المجتمع العراقي إزاء كل المخاطر التي تحوط به وكذلك في دورها المشرف في الحفاظ على هذا الإرث. فعلى الرغم من التنوع الثقافي للمجتمع العراقي ، غير إن التاريخ المكتوب للشعب العراقي وحتى وقوع نكبة الاحتلال سنة 2003 ، لم يسجل حدوث ولا حالة واحدة لصراع أو نزاع ثقافي بين فئات المجتمع الواحد. نعم كان هناك حماس لثقافة دون ثقافة أخرى وربما يبلغ الحماس بعض الأحيان درجة الغلو ولكن لم يبلغ مرحلة الصراع.
وعلى وفق ذلك تكمن ديمومة أو حركية المجتمع العراقي في: (1) القيم النبيلة والأخلاق العالية والتسامح الثقافي والانتماء الحتمي للوطن التي يعتنقها كل إفراد المجتمع ويقتاد عليها. وتكمن أيضا في (2) توفر النخب المتنوعة والوطنية التي عملت على تكريس تلك الأخلاق والقيم النبيلة والثقافات الراقية. (3) وهذه مجتمعة هيأت الأجواء المناسبة لان يغرس في قلب وفي وجدان كل فرد من إفراد المجتمع العراقي حب الوطن وشرف الانتماء للشعب العراقي بكافة تنوعاته والتضحية من اجله.
وقد جاء أول تعبير للمواطن العراقي تأسيسا على هذه الخلفية المشرفة إن أعرض الانضباط والطاعة الفردية للمجتمع واعرض المجتمع بدوره عن فخره واعتزازه بتلك التضحيات واعرض الجميع التسامح والتقبل إزاء الرأي الثقافي الأخر كون الجميع شركاء في الوطن وتجمعهم الروابط القومية والوطنية قبل غيرهما من الروابط الأخرى.
وربما يهيأ التاريخ الحديث للعراق ما يوضح الوصف الوارد في أعلاه فقد بقي الشعب العراقي بكل ثقافاته وأعراقه معزولا عن المجتمع التركي والدولة العثمانية رغم بقاء العراق تحت وطئتهما واحتلالهما له لمدة طويلة ولم يعرض الشعب العراقي ولا ليوم واحد ما يؤيد كون المجتمع العراقي أصبح جزءا من المجتمع التركي الغازي ، في حين تعامل المجتمع العراقي بنفس الوقت مع بعضه البعض بمعزل عن التقسيم الإداري الذي وضعه الاحتلال التركي للدولة العراقية على اعتبار ذلك التقسيم وضع لمتطلبات الدولة العثمانية ولا دخل للشعب العراقي به. وحالما توفرت الفرصة له بعد ذلك بعد إن سقطت الدولة العثمانية وحل الاستعمار البريطاني محلها إن سارع الشعب العراقي إلى إلغاء تلك التقسيمات ووضع بدلا عنها تقسيمات إدارية أخرى.
إن التضحية والتسامح اللتان خلقتا الصمود للشعب العراقي في الماضي هما نفسهما مرة أخرى قد رسما الصورة الجديدة للعراق والمجتمع العراقي بعد الاستقلال عن الاحتلال البريطاني سنة 1921. فكل عراقي في حينه قد ضحى من اجل العراق كوطن سرمدي للكل ومن غير إن يسأل عن شكل النظام السياسي المشكل وان كان للبعض وجهة نظر ربما تغاير تطلعات ووجهات النظر الأخرى. وقال الجميع وبصوت واحد في حينه إن الأسبقية للوحدة الإقليمية ولوحدة المجتمع العراقي وقالوا جميعا أيضا إن اختيار هذا الشكل السياسي أو ذاك أو هذا الشخص أو ذاك لا يفسد للود قضية. وهنا وفي هذه الفاصلة التاريخية بالذات لعبت النخب الثقافية والاجتماعية والسياسية دورا أخلاقيا ووطنيا راقيا بأن حشدت أبناء الشعب العراقي من اجل نيل الاستقلال وإقامة الدولة العراقية على أساس المواطنة والمساواة بين كل المواطنين وليس على إي اعتبار أخر كون العراق وطن للجميع.
ولو راجعنا أدبيات المجتمع العراقي ككل نرى فيه ما يجمعه الكثير والكثير مع أدبيات وثقافات المجتمعات المحيطة به ولكن مع ذلك بقي المجتمع العراقي يحتفظ بخواص له لنفسه لم تنتقل إلى المجتمعات الأخرى القريبة منه رغم العموميات المشتركة المنوه عنها ولم تضعف تلك الخواص كون المجتمعات الأخرى لا تأخذ بها ومنها تعبير(الله بالخير) عند لقاءه أو استقباله الآخرين وهو تعبير يوضح رسوخ التسامح في وجدان كل فرد عراقي من أقصى العراق إلى أقصاه ودون سواه من مواطني الجوار.
غير إن الحال لم يدم على هذا الحماس في الفترة المتأخرة أو الحديثة. فقد عملت الأنظمة السياسية المتعاقبة بعد الاستقلال على تمزيق البنية الاجتماعية العراقية وعملت على إنهاء أو تقليص دور النخب الوطنية في توجيه وقيادة المجتمع العراقي. وربما بالإمكان استثناء النظام الملكي (1921-1958) بعض الشيء من هذا النهج بيد إن التهمة ثابتة على النظام الجمهوري منذ سنة 1958 بصورة عامة وثبوتها بالتأكيد والسعة منذ نهاية سنة 1979. وصارت المواطنة تقاس حسب الولاء للنظام ومعتقدات النظام لاسيما رئيس النظام أو فرد النظام بدلا من العراق والشعب واختزلت النخب بفرد النظام والحاشية المحيطة به.
وربما الفترات الأولى من النظام الجمهوري لم تكن تحمل كل ذلك القدر السيئ من التوصيف المذكور كون برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والخدمية كانت قائمة والطبقة المتوسطة كانت على اتساع واضح خاصة في العشر سنيين التي سبقت 1980 بما يعني ارتفاع مستوى المعيشة. ولكن الكارثة التي حلت بالمجتمع العراقي والتي أكلت الأخضر واليابس هي تلك التي أصابت العراق بعد إن أطلقت شرارتها اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية التي قتلت الشباب وحولت برامج التنمية بعيدا عن مجراها الطبيعي ليقتصر الإنفاق على المجهود الحربي وليخرج العراق منها منهكا تأكله ضعف الموارد بعد تخلي أمراء الخليج عنه لانتهاء الحاجة لاستمرار الحرب وتحاصره كثرة الديون بعد إن كان فائض العراق 35 مليار دولار سنة 1980 وتتوعده إمكانية اندلاع الحرب مع إيران من جديد. فما كان وفق الفلسفة الفردية التي قادت إلى الحرب في الماضي إلا إن تدفع العراق نحو غزو الكويت ليبدأ فصل جديد مستقل تماما بدايته الجوع وتوقف برامج التنمية كلها ونهايتها الاحتلال وتعين مندوب سامي على العراق.
إذن الأساس في كل بناء هو المواطنة ، بقيامها تقوم المجتمعات وتزدهر الدول ، وباضمحلالها تتلاشى المجتمعات وتموت الدول. وعلى وفق ذلك لا أمل في إصلاح إي مجتمع من المجتمعات في إرجاء المعمورة ومنها المجتمع العراقي ما لم تكون الخطوة الأولى هي إصلاح المواطن نفسه وفق مبادئ الأخلاق العالية والقيم النبيلة والتسامح الثقافي التي كانت تضبط سلوكيته في الماضي وإحياء وتعزيز دور النخب الوطنية التي كانت قائمة في الماضي لتعمل كلها سوية من اجل تقوية روح المواطنة بين المواطنين العراقيين وفي إطار المجتمع العراقي الواحد ليصار بعد ذلك إلى إصلاح النظام السياسي القائم الذي بدوره سيؤدي إلى إصلاح الدولة.
ومن ذلك فأن حملة الإصلاح ينبغي إن تكون شاملة لتشمل كل ما له صلة بالإنسان كانسان لإحياء روح المواطنة التي تكاد إن تكون مفقودة ألان وان تشمل أيضا كل ما له صلة بحياة ومعيشة الإنسان من خدمات ومن برامج تنموية وثقافية واجتماعية وسياسية من اجل تعزيز روح المواطنة لاسيما ضرورة إبطال البرامج المريضة الشائعة هنا وهناك والتي تهدف إلى إفشال الإنسان العراقي وتوجيهه صوب الخراب وليس البناء وصوب الشر وليس الخير.
[email protected]