وانا أتأمل بيانات المرجع اليعقوبي الاخيرة حول احداث الموصل قفز الى ذهني عنوان المقال لأني رأيتها على اختلاف عناوينها ومضامينها تؤدي هدفاً واحداً وتتسق بشكل عجيب لتحقق غاية واحدة وهي اخراج العراق من ازمته الراهنة وتخليصه من عنق الزجاجة الضيقة التي ادخلته فيها السياسات الخاطئة وترحيل الازمات والمعادلات الدولية والاقليمية التي دعمت شذاذ الافاق من داعش واخواتها لتدنيس تراب هذا الوطن .
مع الخطاب الأول.. رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل
بدأ المرجع اليعقوبي خطابه الاول (رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل ) بالبحث العاجل عن جذور الأزمة التي تفاقمت وادت الى انهيار الموصل ليلخصها في (الأخطاء المتراكمة وتخلّي أغلب الكتل السياسية الحاكمة وغير الحاكمة عن أخلاقيات المهنة والشعور بمسؤولية المواقع التي ائتمنهم الشعب عليها، وعدم مهنية وإخلاص الكثير من القادة العسكريين ) وماذا بعد التشخيص هل يلجا المرجع الى التنظير والتحليل والوعظ ام لديه حل عملي يقدمه للحكومة وللجيش المنكسرة معنوياته المنهزمة قياداته الذي اصبح في موقف لا يحسد عليه ؟ يجيب سماحته ان الوقت لا يسمح بالتنظير الان وتقديم الحلول الاستراتيجية التي ستأتي في وقتها حتما فيضع امام الحكومة حلاً واقعيا وعمليا ومؤسساتيا وفاعلاً في مواجهة الارهاب الاسود ، فنسمعه يقول (إنّ التحدّيات الراهنة تستدعي تشكيل جيش رديف للقوات المسلّحة وساندٍ لها في عملياتها، يكون له قادة مهنيون وأكفاء ويزوّد بتجهيزات متطوّرة ويحظى بتدريب عالٍ ويستوعب الشباب العقائديين المتحمسين للدفاع عن أهلهم ووطنهم ومقدّساتهم ) وهو بهذا يقدم الحل العملي والاني لمواجهة الصدمة وامتصاصها ، فهو مع اشادته بقدرات الجيش العراقي ورفعه لمعنوياته وتثمين مواقفه الوطنية في مواجهة الارهاب وخدمة الشعب يقترح تأسيس جيش رديف بمواصفات خاصة غابت عن اذهان البعض ووجدوها لاحقاً فهو – الجيش الرديف – جيش نظامي مرتبط بالجيش العراقي مهمته حماية المقدسات واسناد الجيش في حربه وهو يرتكز على العقيدة والحماس – وهي عنصر القوة والقدرة على النصر – واضافة الى ذلك ينبغي ان يكون هذا الجيش مدرباً تدريباعاليا ومجهزا بأحدث الأسلحة وان تكون قيادته قيادة وطنية كفؤة ومخلصة . فماذا نقرأ في هذا المقترح ؟ :
اولاً : المرجع يؤكد على هيبة الدولة ومؤسساتها فلا يسمح بالتمدد خارج اطارها وهو الأمر الذي حذر منه قبل ان يلتفت اليه الاخرون فنراه يؤكد ان الجيش الرديف يوفر للشباب المتحمس ( البديل عن الانخراط في الميليشيات والمجاميع المسلّحة التي تريد الدفاع عن مقدساتها ولكن وجودها خارج إطار الدولة ومجهولية قادتها وتنظيماتها يجعل احتمال الخطركبيراً. ) فهو اول من رفض الميليشيات وحذر من خطرها ولحقه بعد ذلك الاخرون بعد ان ادركوا متأخرين عظم الخطر المحتمل والذي سيتيح لبعض الميليشيات ان تتحول الى جيش مقابل الجيش ودولة مقابل الدولة كما يحدث في ليبيا اليوم .
ثانياً : ان سماحته يشخص بدقة مكامن الخلل في تشكيلة الجيش العراقي الحالي فقسم من افراده لا تحركهم العقيدة ، و كثير من قياداته يتم اختيارها بعيداً عن معايير الكفاءة والاخلاص وانما بمعايير الولاء لهذه الجهة او تلك او مقابل ( هدايا دسمة يسيل لها لعاب البعض ) ، والجيش يعاني من ضعف التدريب الا القليل من اصنافه كقوات النخبة التي اثبتت جدارتها وكفائتها ، وايضا يظهر عامل ضعف التسليح وأثره الكبير على مستوى أداء قواتنا المسلحة وقدرتها على حسم المعركة .
الى الخطاب الثاني..
لا بديل عن الحوار والتنازلات العادلة
والقوم منشغلون في المعركة العسكرية المحتدمة على الارض كاد اعلان المحكمة الاتحادية المصادقة على نتائج الانتخابات ان يمر مرور الكرام لولا ان برز صوت ربما اعتقده البعض غريبا ونشازا لأول وهلة ، انه صوت المرجع الواعي ذي النظرة الثاقبة الذي استشعر الخطر علة مكتسبات العراق الجديد و اتضحت لديه اهداف المحركين لداعش في ضرب العراق على خاصرة العملية السياسية واسقاطها للعودة الى مربعهم الذي ما زالوا يحلمون بالعودة اليه ، هنا انبرى المرجع اليعقوبي ليدعو الفرقاء السياسيين الى (حوار شفاف بين الكتل السياسية الممثلة لفئات الشعب وفق الخارطة الجديدة التي صودق عليها، وان يقبل الجميع بكل التنازلات التي يتطلبها إنقاذ العراق وشعبه من محنتهما ) ـ
ولم يكتف المرجع بذلك بل رسم خارطة طريق لنجاح هذا الحوار بعد ان دعا لأن يكون برعاية المرجعية الدينية ومساعدة الامم المتحدة .
ربما قال البعض حينها ماذا يريد الشيخ اليعقوبي ؟ وهل هذا وقته ؟ ولكن بعد ايام سارت الامور باتجاه ما دعا اليه المرجع اليعقوبي وبدأ الجميع يطالبون بضرورة الحوار والاسراع بتشكيل الحكومة والالتزام بالتوقيتات الدستورية .
وهكذا يثبت المرجع اليعقوبي مرة اخرى ان وعيه يسبق الجميع لما يمتلكه من خبرة في الشأن السياسي ومتابعة دقيقة لمجريات الاحداث و حكمة بالغة ونظرة ثاقبة تعينه على استكشاف خفايا الامور والتنبؤ بتداعياتها .
ولا يفهم من طرح المرجع ودعوته للحوار اللجوء الى الحل السياسي كبديل عن الحل العسكري ، وانما هو التكامل والتعاضد بين الحلين للوصول الى النتيجة المطلوبة في اسرع وقت .
واخيرا ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) ) .. الخطاب الثالث
تفاجأت وانا استمع لخطيب صلاة الجمعة وهو يتحدث عن بيان لتوضيح خطاب المرجع اليعقوبي حول احداث الموصل ، كان الخطيب يتحدث بالموعظة ويحث على الناس على القيام لله عز وجل والتفكر ، اردت ان ينتهي من خطبته لأساله : هل هذا حديث المرجع اليعقوبي ام حديثك ؟ ولكن سرعان ما اكتملت الصورة وانزاحت عن عيني الغشاوة وانا استمع للربط الجميل الذي يسوقه المرجع ويزاوج فيه بين الاحداث الجارية وحاجة المجتمع الى العودة لله والتفكر والموعظة والقيام … هو الحل اذن وكما قال سماحته اثناء الاحداث الدامية التي شهدها البلد بعد المواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال ( الحل والعلاج في العودة الى الله ) أو كما قالها اليوم ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) .
في ثنايا هذا الخطاب ( جواهر بين التراب ) كما يعبر المرجع الشهيد محمد الصدر ( قدس سره ) ، لعل اهمها هو مدى الانعطافة الاستراتيجية المهمة التي يحاول المرجع اليعقوبي ان يحدثها في وعي المجتمع ليعيده الى الله عز وجل بعد ان ابتعد عنه كثيرا وسعيه لترسيخ هذه القاعدة في عقول الناس ( لا حل الا بالعودة الى الله ) ، فنسمعه يقول ( لا وسيلة لنا ولا حل ينجينا الا بواحدة {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} وهي ان ننهض لله وفي سبيل الله ونرجع إلى الله تبارك وتعالى، وندعوه ونتوسل بأقرب الوسائل إليه تعالى: حبيبه محمد المصطفى وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ونستغيث بصاحب العصر والزمان (عليه السلام)ليشملنا بألطافه ورعايته وسيلهمنا الله تعالى الحلول الصحيحة ويعيننا على تنفيذها والعمل بها ) .
و من جواهر هذا الخطاب قوله – دام ظله – (فلنغتنم هذه الهدية الالهية المباركة في كل حياتنا خصوصا في وقت الازمات والمحن كالتي تمر بها البلاد اليوم حيث يعيث فيها الارهاب الاعمى فسادا وقتلا وتشريدا واجراما، فقبل ان نلهث وراء هذا وذاك ونستجدي منه النصرة والعون وهو يزيدنا اذلالا واهانة، علينا ان ننتفض على انفسنا واهوائنا )
في اشارة واضحة للابتعاد عن السماء والركون الى الاسباب الطبيعية التي لا تغني من الله شيئا ، فلو لجأنا له سبحانه وتعالى لجوءاً حقيقيا لما احتجنا ان نتوسل بأمريكا ونستجدي دعمها العسكري وهي تزيدنا – اذلالا واهانة – مع شديد الاسف .
لا اريد الاطالة اكثر وفي الخطابات الثلاث خصوصا الخطاب الاخير جواهر تحتاج الى استخراجها والاستفادة منها ، بقي ان اشير فقط الى تكامل الخطابات الثلاث وتناسقها في الوصول الى الهدف ، فاخراج العراق من ازمته لا يتحقق الا باتباع الاساليب النموذجية في دعم العملية السياسية والشراكة الحقيقية وبناء دولة المواطن ، في مسار يتوازى مع مواجهة الارهاب والضرب عليه بيد من حديد وبسواعد الشباب العقائديين المتحمسين ، وقبل هذا وذاك في الرجوع الى الله واللجوء الى السماء واستنزال بركتها ورحمتها ونصرتها .
واخيرا لي عتب على الاقلام والعقول المخلصة من اتباع المرجع اليعقوبي ومن غيرهم الذين توانوا كثيرا عن انصاف هذا الرجل ودعم اطروحاته وابراز مشاريعه وايصالها الى الناس وتحويلها الى واقع على الارض، لا سيما من انساقوا وراء الزعامات الكارتونية وابتعدوا عن الزعامات الحقيقية التي تنفع المجتمع وهم يتمثلون المثل الشائع ( حشرا مع الناس عيد ) ، هي دعوة اذا للانصاف امام الله والتأريخ والوطن .