وئدت ولكن
ليس حين مولدها
انما
وئدت بعد حين
زمن مضى
ربما سنوات عشر
او ربما
ازدادت خمسا
او ربما
في العشرين
هكذا كانت قصة حياتها وحياتها كما تشير الكلمات قصيرة بل قصيرة جدا
……………….
في زمن الاقطاع كان مولد ابويها
في قرية من قرى العراق .
مازال بعض الاشخاص كبار السن يتحدثون ويعيدون الى الاذهان صورا من البؤس والمعاناة والظلم ,ظلم الانسان للإنسان ….ظلم القوة والسلطان…ظلم الحاجة تسير وفق قوانين المنفعة او الجبروت………….
كانت الام تتحدث عن طفولتها فتقول انها حين كان لها من العمر خمس او ست من السنين ,كانت تلاحظ دأب ابيها وامها في الحقل وكدهما من اجل ان تعلوا سنابل الخير وتعبهما المستمر وذلك الليل الطويل الذي لا يكادون ينالون من الراحة فيه الا سويعات قليلة ربما لم تستطع اجسادهم ان تنال ما يكفيها لتبدأ صباحا جديدا من العمل والكد.
ولماذا….؟قالت الطفلة متسائلة…؟
اجابتها الام قائلة:- الراحة للمترفين فقط …اما المتعبون امثالنا فلهم العناء والتعب اجل ذلك هو الامر السائد بل حتى اطفالهم الصغار لا ينالون شيئا إلا بشق الانفس ولا يكادون يعرفون للسعادة حتى مجرد طيف.
هذا هو الواقع الذي تعيشه إذ كان على الطفلة ان تسهر مع امها التي تتناول الرحى تدور بها بحبيبات قليلة من الدقيق ما عرفت الطفلة كيف جاءت بها الام وكيف تمكنت من اخفائها بين طيات ثيابها كي لا يعرف بذلك (الشحنة/وهو الرجل المسؤول على مراقبة الفلاحين باعتباره وكيلا عن الاقطاعي المالك للأرض التي يزرعها هؤلاء المتعبون) فأن عرف فستكون تلك الطامة الكبرى والتي يمكن ان تعرض تلك الام الى ان يقام عليها الحد باعتبارها سارقة هذا هو منطق الظلمة والظالمين فزرعهم وحصاهم لا ينالون منه الا اللمم والخير للملاك. قد يبدوا الامر غريبا او مستحيلا في هذا الزمن ولكن في ذلك الزمن لم يكن كذلك ليست الارض لمن يزرعها وليس المحصول لمن يكد ويتعب فيه ويمضي الليل بساعات الشتاء الطويل ساهرا في ذلك البرد القارس اوفي نهار الصيف الذي تلفح شمسه الوجوه فالثمر للإقطاع والكد للفلاحين.
لا يملكون الارض ولهذا لا يحصلون على الكفاف.
لا تدري متى استيقظت بعد سهر طويل ,كانت عيناها تدوران في محجريهما مع رحى الأم التي تطحن حبيبات الدقيق لتعده خبزا للفطور والغداء والعشاء وجبة واحدة لكنها ما اكتملت الا بشق الانفس اذ كانت الرحى تدور ونجوم السماء تدور في افلاكها وتعلن ان الصبح قريب وبعدئذ نام الجميع بل هجعوا هجوع تعب او نوم على سغب كلا الحالين يجعلان المرء مستسلما لما يسمى بالرقاد.
تحركت الطفلة في فراشها وراحت تنظر في الظلام وندت عنها صرخة اذ اعتقدت انها ترى صورة جدها الراحل قبل شهرين في حادثة اليمة بعد ان امضى ليلة قارسة البرد يراقب مجرى الماء من اجل ري المروز المزروعة فعاد فجرا مريضا محموما واشتدت عليه الحمى ولم تمهله الا اياما ثلاثة قضى بعدها نحبه فاجتمع في البيت الريفي البسيط جمع كبير من الرجال والنساء واوقدت النيران تحت القدور تقدم للمعزين طعاما سخيا …..اجل طعام سخي وكثير رغم الفاقة والفقر الذي تعانيه فوالدها ابى الا ان يقوم بما يجب ان يقام في ايام التعزية والثمن دين بفاتورة كبيرة تحملها والدها فهو الابن البار لوالد رحل ولم يخلف ذهبا ولا فضة لكنه كان والدا عطوفا حنونا وجدا قدم لولده واحفاده كده وتعبه لآخر يوم من حياته …
لقد مضى شهران على رحيل الجد ووسم الحزن وجه والدها ودخل فؤاده الهم ورأت والدتها والنساء الاخريات اللواتي شاركن في البكاء ولدم الصدور ونشر الشعور طيلة ايام العزاء يلبسن ثوب الحداد ثم توالت الايام يوما بعد آخروها قد مر شهران فما معنى ان تستحضر الطفلة صورة جدها الراحل وتصرخ في ذلك الليل البهيم .
أسرعت اليها امها واحتضنتها وقد اصابها الذعر الشديد لما حدث لابنتها وراحت تربت على كتفها وتنظر الى عينيها اللتين كانتا مغمضتين نصف إغماضه وراحت تتلو بعض الآيات القرآنية والتعاويذ التي كانت ترددها وتنفخ في وجهها…هنا هتفت الفتاة …امي لقد رأيت جدي …اجل كان واقفا هنا .
طمأنتها بأن ذلك كان حلما لأنها تحب جدها وتتمنى رؤياه ,راحت تمسح على رأسها وصدرها وهي تتلو كلماتها تهدهدها حتى عادت الى النوم ثانية حين كان اذان الفجر ينادي للصلاة عرفت الفتاة ذلك من قول امها لبيك داعي الله لبيك وتناهى الى سمعها صوت والدها الذي يقف ليس بعيدا يردد ذات الكلمات ومضى للصلاة وبعد هنيهة وحين نامت البنت مضت الام لأداء فريضة الصبح .
…………………
مضى زمن لم تتغير الحالة التي تعيشها الاسرة ولكن هناك متاعب اخرى اضافت هموما جديدة تلك هي قائمة الدين الطويلة والتي ضمت اكثر من ثلاثين دائنا صبروا عليه بادئ ذي بدء لكنهم لم يمهلوه حتى انتهاء الموسم ما جعل الاب في ضيق متواصل متوفزا غضوب. وكانت الام تواسيه وتصبره لكن ذلك لم يجد مجالا لحل المشكلة التي باتت تهدده بدخوله السجن كما قال له احد الدائنين من تجار الحبوب اذ قال له وبكل صلف (اسمع… لقد صبرت عليك طويلا…يا اخي اذا ما عندك ليش تكلف نفسك اكثر من قابليتك وتبذل هالبذل …كلي اني شنو ذنبي اتحمل تأخير الدين …اشوف تاليها نوصل للمحاكم والسجون).
كانت تلك الكلمات كأنها شلال رصا ص منهمر .
هي تذكر لغاية هذه اللحظة كيف تغيرت سحنة والدها واوشك ان ينفجر هما أو يموت كمدا لولا رعاية الله عز وجل.
عند الفجر وقبل ان يمضي الى عمله كان هناك زائر ما عرفته ولا عرفت مهنته الا ذلك اليوم حيث مضى برفقة والدها الى بقرتهم الوحيدة وليمضي بها الى حيث تذبح وتقطع ويباع لحمها سدادا لدين الوالد وثمنا لوليمة وفاة الجد فذلك الرجل هو القصاب الذي دفع الثمن.
يومها بكت بحرقة فالبقرة تعتبر عنصرا مهما من عناصر البيت الريفي وهي تحظى بمنزلة خاصة لا تضاهيها اي من الحيوانات وهي اضافة الى هذا هناك رابط عاطفي ناتج عما توفره من غذاء يستهلك ويباع فهي بمثابة السلة الغذائية الدائمة للأسرة الريفية الفقيرة.
كانت الام هي الاخرى تجالد الحزن وتخفي الكمد لكنها لا تريد ان تظهر انكسارها امام الاطفال سيما هذه البنت التي تعتبرها مميزة اذ رأتها وهي تمسح دموعها وقد جلست القرفصاء على حصيرمن الخوص صنعته الام بيدها فقالت مواسية لها ان لا تهتم للأمر ففي وقت قريب سيأتون ببقرة اخرى.
هي تظن ان ذلك لن يكون في وقت قريب لكنها لم تشأ ان تكذب امها او تخذل ابيها.
وقد صدقت في ذلك الظن لأنها في الايام التالية وجدت امها تقدم لوالدها منديلا وضعت فيه اقراطها وخواتهما وخلخالها الفضي ومعه كلمات طيبة تناول والدها المنديل كمن يعجز عن كلمة شكر يقولها لمن شاركته الحياة بكل ما فيها من متاعب دون ان تشتكي او تتأفف.
………………..
تلك هي امي…قالتها بكل فخر واعتزاز فتلك المرأة الريفية البسيطة كانت مدركة ان رسالتها هي دعم زوجها والشد من ازره بكل ما تتمكن وبكل ما تملك بهدف النهوض من المحن التي تواجهه فهو عماد بيتها ووالد ابنائها الاعزاء وكانت تردد دائما كلمات امل وحب تنسي الزوج مآسيه وتقوي عزيمته في المواجهة مواجهة صعوبات الحياة وقد انتصرت ..اجل انتصرت وحققت ما تريد من خلال ارادة وعمل وكد وتعب فقد تمكن الوالد من العمل بأحد المعامل الاهلية وبأجر شهري بعد ان تكفلت الام بمتابعة اعمال الزراعة منفردة رغم الاعباء الكبيرة المنوطة بها …ولكنها …هي الام …هي امرأة ما عرفت نفسها لليأس سبيل
…………
ان نملك قطعة ارض نقوم بزراعتها دون ان يكون لأحد ما حصة في تعبنا وكدنا ذلك حلم اعتادت ان تسمعه يتردد على مسمعيها من جميع افرد الاسرة بل من جميع الاقارب والاصدقاء وكان الوالد يرفع يديه للسماء عقب كل صلاه بأن يمن عليه ومن فضله ارضا يستطيع استغلالها مستقلا وهكذا تحقق الحلم بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958وكانت الطفلة حينها في العاشرة من العمر وقد استقر بهم المقام في الارض التي وزعتها الدولة على الفلاحين ولن تنسى تلك الفرحة العظيمة التي شملت الاسر الفلاحية البسيطة ومنهم والديها وكان نتيجة ذلك انها وبذلك السن دخلت المدرسة الابتدائية تلميذة في الصف الاول رغم بلوغها سن العاشرة وكأنها ولدت من جديد حين لبست ثوبها المدرسي وحملت الحقيبة اليدوية البسيطة التي قامت امها بخياطتها من قماش ملون.
ومرت سنوات اكملت فيها الدراسة الابتدائية وكانت من المتفوقات وكانت تأمل ان تواصل الدراسة لكن حدث مالم يكن بالحسبان اذ بلغت سن الخامسة عشرة وهي سن تعد فيه الفتاة امرأة وعليها ان تودع طفولتها وتبدأ حياة اخرى كربة منزل وزوجة وام ولم تشفع دموعها ولا تأوهاتها ولا تمكنت والدتها من معاونتها اذ كان الامر قاطعا وبعبارة واحدة (كفى ان تقرأ وتكتب لقد آن اوان ا ن تتحمل مسؤوليتها في بيت الزوجية فقد تمت خطبتها لابن الحلال صاحب النصيب )
هكذا وئدت هكذا انتهت حياتها وان عاشت عمرا بعد ذلك وئدت ولكن ليس بالموت والقتل ليس بالمدى او الرصاص وانما ذبحت بأرادات جاهلة ومفاهيم خاطئة وموروثات باطلة.