إنه لمن المؤسف حقا تصور بعضنا أن مقارنة الشعب العراقي بشعوب دول متقدمة كاليابان أمر غير وارد، إذ بمجرد ضربك مثلا عن اليابان -حكومة او شعبا- يبادرك هذا البعض بالقول: (عمي شجابنا عاليابان)..! وكأنهم أتوا من كوكب غير كوكبنا، او كأنهم ليسوا (أولاد تسعة). وفي الحقيقة أن البون الشاسع بين الشعبين والحكومتين ماكان ليفرض نفسه لولا خصال تمتعوا هم بها، فيما نأينا نحن العراقيين عنها أيما نأي، فلم يأت الفارق بيننا وبينهم إلا لأنهم عملوا بإخلاص لبلدهم، حكومة وشعبا أيضا، فتحلى المواطن البسيط منهم بالعقل الواعي، كما تحلى مسؤولهم الكبير به، ومسك زمام أمورهم عقلاء يعلوهم عقلاء وفوق الاثنين عقلاء، وجميعهم انصاعوا للقانون تمام الانصياع، فكان الناتج بلدا متحضرا متقدما مرفها.
لقد خرج اليابانيون من الحرب العالمية الثانية عام 1945 متكبدين خسائر جسيمة من جراء قنبلتي هيروشيما وناكازاكي النوويتين، إلا أنهم سخروا كل ما أمكنهم استخدامه للنهوض بحال بلدهم المنكوب، لاسيما وقد طال الخراب الإنسان والحيوان والنبات والجماد وحتى الهواء، فأطلقوا العنان لكل القدرات البشرية التي يتمتعون بها، وفي ذات الوقت لم يدخلوا في حساباتهم الخلافات الداخلية فيما بينهم، وقد أيقنوا أن العالم المحيط بهم ينقسم الى قسمين؛ الأول سعى الى خرابهم وأوصلهم الى ماوصلوا اليه، والثاني أخذ موقف المتفرج على ماحل بهم من كارثة وماسيمرون به من أزمات، وقطعا استنتجوا أن الجهة الوحيدة القادرة على النهوض بهم هي أنفسهم وحدهم لاغير، فوضعوا نصب أعينهم ثلاث ركائز أساسية للنهوض بقوة تمكنهم من مواكبة عجلة البناء والتقدم، بل والتفوق على أقرانهم من الدول، واتخذوا منها قاعدة مثلثة تستند عليها باقي مرافق الدولة المتحضرة، وكانت رؤوس ذاك المثلث هي: (القضاء والصحة والتعليم).
أما الرأس الأول، فمادام عادلا ومنصفا للمذنب والبريء معا في آن واحد، ونائيا عن المحسوبية والمنسوبية والنظر الى المواطن والمسؤول وذوي المناصب الرفيعة نظرة القانون لاغيرها، بلا انحياز الى فئة او ضغوط من جهة او تواطؤ مع جانب, تحققت بذلك المساواة ولم يطمع أحد بأخذ أكثر من حقه او ييأس آخر من فقدان حقوقه، وساد بذلك العدل وعم السلام.
وأما الرأس الثاني، فمن منطلق ان العقل السليم في الجسم السليم، وان الجسد المعافى يرقى بالعقل السوي الى حيث الإبداع والإبتكار، فقد أولت السلطات اليابانية اهتماما جديا بجانب توفير الخدمات الصحية في أبعد مناطق البلد، وبفتح مراكز طبية تعليمية وتفعيلها بشكل استثنائي وبطاقة قصوى، لإيصال الوعي الصحي الى أفراد المجتمع بجميع شرائحه، فنشأ مجتمع بجسد سوي صحي أثمر عقولا سليمة، تفتقت عن اختراعات في مجالات العلوم كافة.
وأما رأس المثلث الثالث فهو التعليم، بدءًا من مراحله الأولى حيث ينقش التعلم في ذهن الطالب وهو يافع، ليأتي أكله في المراحل المتقدمة من العمر كمهندس او عالم او باحث، أوالمواقع المتقدمة في قيادة مناصب الدولة كمدير ووزير ورئيس وسفير متعلم، يصلح لقيادة مجتمع قيادة صحيحة.
هنا في عراقنا ماذا لو سأل ساستنا أنفسهم أين نحن من هذا المثلث؟ ومتى تدخل قاموس مسؤولينا مصطلحات مثل؛ المهم والأهم، الأولويات والضروريات، البناء والإعمار؟ وينأون عن مصطلحات أثقلت كاهل البلاد، أولها؛ المحاصصة وثانيها المحسوبية وثالثها المنسوبية ورابعها المناطقية وخامسها الطائفية وعاشرها الحزبية… ويطول العد في مصطلحات لاتغني ولاتسمن من جوع، يرزح تحت وطأتها العراقيون ليصحوا في يومهم بحال أسوأ من أمسهم، ويوعدون بغد أكثر سوءًا من يومهم، فكأني بحالهم ينشدون:
عجبا للزمان في حالتيـه وبـلاء ذهبـت مـنه إليـه
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه