تقليب صفحات التاريخ والماضي آمراً لم يعد سهلاً ولا حتى مستساغ وتحديداً في أوساط ممن مازالوا تتقاذهم العواطف وتسكنهم المسلمات وترعبهم الحقائق . التاريخ بمثابة مراجعة للحدث من أجل إصدار الحكم عليه لكي يصبح تاريخاً مقروءاً مبنياً على الاسس التاريخية والقانونية والفكرية والسياسية والاخلاقية والمهنية .
تاريخ العراق بشقيه الوطني والسياسي لم يكتب الى الآن على أسس مدروسة مهنية ووطنية مستقلة بعد أن أربكته الظروف التي أحيطت به ، حيث لم يعد غريباً أن يصبح العميل وطنياً والوطني بات عميلاً تحت ذرائع وصياغات مجحفة بعيدة عن الواقعية التاريخية .
اليوم .. أذا أردت أن تطرق باب حدثاً تاريخياً ترك بصمته على حركة وتاريخ مجتمع كامل منذ عقود مضت عليك أن تتوخى المصداقية والأسانيد في تناوله وعلى أقل تقدير تجاه ثمة بشر يودون المعرفة والحقيقة حتى وأن كانتا مرة وحزينة . تعمدت في تقديم هذه الجلجلوتية في المقدمة لكي أتوقف عند منعطف مهم شغل وما زال يشغل العراقيين في مسودات يومياتهم المربكة بين الماضي والحاضر وأفق المستقبل ، إنها محكمة الشعب والتي عرفت بأسم رئيسها محكمة المهداوي ” فاضل عباس المهداوي .
محاكمة عادلة
محكمة الشعب أو محكمة المهداوي .. فالآمر سيان . تأسست بنفس عام ثورة 14 تموز 1958وبأمر مباشر من قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم لمحاكمات عادلة ومباشرة لرجالات النظام الملكي السابق ، الذي سقط صبيحة ذلك اليوم بمجزرة دموية في حديقة قصر الرحاب . في دولة مصر ، حدث هكذا ولقد سبقونا بسنوات تحطمت الملكية على أرض الكنانة بسواعد حفنة من الضباط الاحرار ولقد واجهوا منذ اللحظة الاولى مصير الملك فاروق وعائلته ، وفي إجتماع لهيئة الضباط الاحرار قرروا ترحيلهم من أرض مصر الا أن الرئيس السابق أنور السادات طالب بمحاكته ، فكان الرد محاكمته يعني إعدامه ؟. في فرنسا الملكية قتل الملك لويس السادس عشر مع زوجته وأولادة شر قتله . في قراءات لاحقه لاوراق تاريخية غطى الغبار ملفاتها من عمر ثورة تموز ولابرز وجوهها ” محكمة المهداوي مثالاً.
في تقديري الشخصي وعلى ضوء قراءاتي المتواضعة لكنها حصيفة ومعمقه بعيداً عن السطحية والعواطف والميل للمسلمات ، إن محمكة المهداوي ممكن حصرها بجملة إنها سرقت بريق ثورة تموز وأساءت الى رجالها والى معانيها الوطنية والنضالية لا لكونها محكمة معنية بمحاكمة رجالات النظام السابق بل الاسلوب الرخيص والألية الفضفاضة في إدارة وقائع المحاكمات دعنا عن مهنية وأختصاصات الذين يديرون هيئة المحكمة . وكانت تعقد جلساتها في قاعة الشعب في منطقة باب المعظم قرب مبنى وزارة الدفاع في بغداد، وهي باقية إلى الآن وكان يتم نقل وقائع جلساتها على الهواء مباشرةً في المذياع والتلفاز ، وتأسست بمرسوم جمهوري من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم لمحاكمة رجالات النظام الملكي السابق ، وكان يفترض أن ينتهي دورها بآخر جلسة محاكمة وزير داخلية النظام الملكي السابق سعيد قزاز ، والذي وقف شامخاً وبتحدي بالدفاع عن مهنيته وأنتمائه الى العراق أمام سيل من الجمل البذيئة والغير لائقه بمستوى تمثيل محكمة عادلة والتي أدت بالتالي الى إصدار قرار باعدامه ونفذ به ، لكنها أخذت على عاتقها فيما بعد بمحاكمة المعارضين لسياسة الزعيم قاسم ولثورة تموز من رجالات حركة الشواف في الموصل ومحاكمة عبد السلام عارف ورشيد عالي الكيلاني ، بالضد من قرار المرسوم الجمهوري الذي نص على إنشائها ، وأستمرت في عملها الى آخر يوم من حياة الزعيم قاسم الذي قتل مع صحبه في مبنى دار الاذاعة في الصالحية ظهير 9 شباط عام 1963 على يد إنقلابي مجزرة شباط .
ذكر أكثر من مصدر ومناسبة ، عندما زار وفد من رجالات أنقلابي شباط ، بعد أن نجحوا في أنقلابهم المشؤوم الى جمهورية مصر العربية واللقاء بالرئيس جمال عبد الناصر . عبر الرئيس ناصر في يومها عن حزنه في إعدام الزعيم قاسم ، ولكنه كما رووا عنه . قال …أنا لم أحزن على اعدام فاضل عباس المهداوي ولكني لم أفرح على إعدامه ، وممكن لنا أن نستنتج من هذه القراءة الغيض الذي كان يحمله الرئيس جمال عبد الناصر تجاه المهداوي ومحكمته والذي لم يفوت فرصة الا ووجه سيل من التعليقات المجة تجاه شخص عبد الناصر مشبهاً شخصه بألة ( الدرنفيس ). كان يتوجب على الزعيم قاسم التدخل بأعتباره صاحب الأمر الناهي في تحديد قوالب المرافعات وفق الاسس القانونية والدستورية من تاريخ المحاكمات واخذ بالاعتبار المضامين الوطنية والثورية لاهداف ثورة تموز . كما يذكر في ذلك اللقاء بالقاهرة ، لقد وجه جمال عبد الناصر اللوم ونقده الشديد الى قادة إنقلاب شباط الاسود على القسوة المفرطة والاساليب الدموية والتي لم يتورعوا في إستخدامها ضد الشيوعيين وأصدقائهم محذراً من مغبة ذلك على مستقبلهم السياسي .
دعم مشاريع
الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم لا يختلف إثنان على وطنيته ونزاهته وحبه للعراق وشعبه ، وهذا واضحاً من خلال دعمه لعدة مشاريع أقتصادية وأجتماعية وأنسانية حققت بالقدر الأدنى للمواطن المعدم ولعامة الناس راحه ورفاهية وأفاق مستقبلية ، لكن نحن الآن في صدد الجوانب السياسية في حياة الزعيم ومواقفه والتي غفل عنها العديد من الباحثين والمهتمين في تفاصيل تلك المرحلة من تاريخ العراق السياسي . ظل الزعيم قاسم لآخر لحظات حياته متشبثاً بكرسيه ونهجه الدكتاتوري في محاربة القوى الوطنية وفي طليعتهم الشيوعيين والذين كانوا خير معين وسند له على الرغم مما تلقوه في فترة حكمه من أساليب ترهيب ومطاردة وإعتقالات بالألاف وعندما نجح الانقلابيين في إنقلابهم وجدوهم في الزنازين والمعتقلات صيداً ثميناً . ولا وثيقة تؤكد الرواية أن الزعيم قاسم في ساعاته الاخيرة والتي حصر بها نفسه في وزارة الدفاع أتصل بالشهيد سلام عادل لينقل له ندمه في محاربتهم وسيعوضهم بعد قضائه على محاولة الانقلابيين . والزعيم قاسم الذي نعته الشهيد سلام عادل في لقائه اليتيم معه ، وعندما خرج مزعوجاً من ذلك اللقاء إنه فعلاً رجل ”طاغي . ونحن اليوم أكثر من البارحه بما يمر به العراق من مخاضات الى مراجعات نقدية واقعية لمرحلة سياسية كاملة بعيداً عن العواطف والانتماءات لنخرج بحصيلة تخدم العراق وبنائه.
محكمة المهداوي وما آلت اليه من تداعيات على مستقبل العراق الى يومنا هذا .. هل كانت فعلاً محكمة تحمل مقومات أصول المحاكم والمرافعات القانونية ؟. هل كانت بمستوى الحدث لثورة تموز ورجالها؟. لقد أوحت مجريات وتفاصيل المحاكمات للمتابعين ، إنها كانت تحمل أجندة سياسية ولا تخلوا من روح الثأر والانتقام ولهذا تركت في نفوس الناس حنق وغضب وعدم رضا عن مجرياتها والخوف ومما ستؤدي نتائجها وتترك ظلالها السلبية على مضامين ثورة تموز الوطنية .