23 ديسمبر، 2024 4:17 ص

المنظومة الأخلاقية في خطر

المنظومة الأخلاقية في خطر

{إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}، من يتأمل في معاني الحديث النبوي يدرك جيداً أن المجتمع الجاهلي لم يكن يخلو من بعض مكارم الأخلاق، والتي نجدها في مواقفهم القائمة من كرم وشجاعة ومروءة وإيثار.
مصداقاً لذلك، عرف عن حاتم الطائي بالكرم وعنترة العبسي في الشجاعة والمرؤة والحياء..
وما نسب الى عنتر في احدى اشعاره بقوله
وأغض طرفي إن بدت لي
حتى يوارى جارتي مثواها
والأمثلة في هذا الصدد كثيرة يطول ذكرها، لكن ومع ذلك كان المجتمع الجاهلي فاسداً، ينقصه الكثير من الأخلاق والمكارم لأسباب منها؛ تعلقه بالوثنية وعبادة الأصنام فضلاً عن الموروث الإجتماعي الخاطئ الذي تناقلته الأجيال آنذاك..
جاءت شريعة السماء لتبني إنساناً سوياً ترفع من قدره لتصله لمكانة تفوق مكانة الملائكة في حال التزامه بتعاليم وقيم السماء، واكتمل صرح منظومة الأخلاق في عصر النبوة والإمامة والصالحين من الصحابة، واستلهم الجيل تلك القيم والمثل العليا وترجم مثاليات تلك الحُقبة على أرض إلواقع في سلوكه مع نفسه اولاً ثم مع أهله ومجتمعه.
ويرجع الفضل في هذا التمييز الفريد من نوعه إلى الارتباط الوثيق نتيجة الإيمان المُطلق بما نزل على نبي الرحمة “صلى الله عليه وآله“.. وما يثير الدهشة بعظمة جيل النبوة والإمامة، أنهم لم يكونوا إلا بشراً وليس من الملائكة، فمنم من كان يعبد الوثن ثم أهتدى وبهديه نال مرتبة عظيمة تغبطه الملائكة، دخل الإيمان إلى قلوبهم مما أدى ذلك إلى نبذ كل غرائز بني آدم التي منها ما تحط من قيمة الإنسان، إلا أن حرصهم على الثبات في مستوى الإنسان جعل منهم من يفوق درجة الملائكة المقربين..
ولنا في النبي وأهل بيته أسوةٌ حسنة، كيف أستطاعواْ بأخلاقهم النبيلة في تغيير كثير من المفاهيم والعقائد والسلوك المنحرف الذي كان سائداً آنذاك.. اليهودي الذي كان يرمي الأوساخ على رسول الله وما ان مرض حتى جاءه النبي زائراً له ليطمأن على حاله فتعجب من ذلك  الصنيع، كذلك ما صنعه زين العابدين علي أبن الحسين حين انتفض أهل مكة ضد الأمويين وكيف كان الإمام يرد إساءة الأمويين بالإحسان عليهم.
أبتعدت الأمة عن تلك المفاهيم السامية مما اوصلنا ذلك إلى أنحدار بالمنظومة الفكرية والأخلاقية وناقوس الخطر قد طرق الباب. حيث لم يبقى من الإسلام الإ إسماً والأخلاق مجرد رسماً
سلوكيات المجتمع تغيرت عما كانت عليه قبل خمسين عاماً مضت، ولا شك ان الثقافة الغربية كانت السبب الأول في ذلك، استطاعوا بشكلاٍ وآخر تصدير لنا مفاهيم معلبة بقوالب مخصصة للاستهلاك تحمل عناوين تسر الناظرين اليها.
وحين نتأمل درجة انهيار المنظومة الأخلاقية اليوم في كل مجالات الحياة، سواء كانت على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي والعسكري، ندرك أن الإسلام على وجه الخصوص والمنظومة الأخلاقية بشكلاٍ عام أضحيا غريبان ومن يتشبث بهما يعتبر بنظر الآخرين متخلفٌ جاهلٌ رجعي!
الأذواق فسدت بتعددها، وأصبح الإعلام يسوّق لنا ألوانا براقة من اللهو ليتذوقها البعض على أنها ثقافة وفن وارتقاء وحداثة، منها ما استهدف المرأة بشيء من التخصيص، بجعل المرأة الغربية مثالاً للاقتداء، لتنزع عنها ثوب الحياء وتطمس أنوار العفة، وأبرزت الراقصة العارية كمثال وقدوة لها بكل جرأة، واحتقرت المحتشمة ليكون المقياس كلما تحررت زادت فرص النجاح وكلما التزمت تعد منحرفاً في عيونهم!
باستهداف المرأة التي هي مصنع العطاء في المجتمع الشرقي المسلم، فهو استهداف للأسرة والمجتمع برمته، لكونها الوعاء التي تنشأ فيها الأجيال..
لم يقتصر الأستهداف لهذا الحد بل تعداه إلى الطفولة عبر برامج هدامة تبث ببهرجة تلفت الأنظار هدفها الأول والأخير سلخ الطفولة البريئة وبث فيها تعاليم لا تتلائم مع معتقداتنا وقيمنا، سيما وأن الطفل أشبه بالورقة البيضاء تستطيع ان تكتب فيها ما تشاء، وهذا ما سيولد جيل يتكون في داخله الريبة والشك في كل ما حوله، مما سيؤدي إلى شغله عن معالي الأمور ونافعها والرمي به في حفر الشهوات والملذات، يسوقون مفاهيم مغايرة، ويحقنون ثقافة لا تمثلنا ولم تكن يوماً سبب في سعادتنا وتحررنا ورقينا بين الأمم.
لقد انقلبت المفاهيم تماما، وأصبح الالتزام بالدين والأخلاق كالقبض على الجمر والدفاع عنهما جريمة لا تغتفر في عصر طغى عليه العولمة والتحرر. وزاد من الوضع تعقيداً أصحاب الأقلام المأجورة لترسخ القيم المغلوطة بعناوين براقة مرتيدة ثوب الحداثة عبر مهاجمة القيم النبيلة من ديننا الحنيف وموروثنا الأجتماعي الأصيل.
للأسف مجتماعتنا الشرقية لم تأخذ من الغرب سوى المفاهيم الهابطة وسلوكيات منحرفة نترجمها في حياتنا اليومية بداعي الحرية والديمقراطية! ولم نأخذ ما ينفعنا في مجال العلم والتكنولوجيا، فاصبحنا أمة خاملة مستهلكة..
نعم تميزنا بانتاج افكار دخيلة على جسد الأمة، الا وهو منتوج التطرف الذي فتك بجسد الأمة هو الآخر جائنا من مصانع الغرب، بسبب المفاهيم الخاطئة التي تم تغذيتها لأجيال نتاج الجهل وارتداء ثوباً ليس أهلاٌ له
أجيال تربت على مفاهيم دخيلة مما دفع بأصحابها إلى سلوك منحرف واصبحت جزء من حياته اليومية، مشاهد لم تعد صادما لدى الكثير حين تتم مشاهدة من يتجاهر بالألفاظ البذيئة تتقاذفها الأصوات، وعدنا لم نستغرب حين يتطاول الصغار على الكبار وتجاوز حدود الاحترام والتوقير بين الفئات بفحش القول والفعل.. لم يعد غريباً استشراء الكذب والافتراء، ولا نشر الإفك والبهتان ولا تسخيف الحياء والحلم، ولا تضييع الأمانة والعهد، والغاية تبرر الوسيلة.
مخطئ كل من جعل الأزمة الأخلاقية في هامش حساباته، بالأخلاق تحيا وتزدهر الأمم وهنا نستذكر قول الشاعر أحمد شوقي:
إنمـا الأمـم الأخلاق مـا بقيـت
فإن هم ذهبت أخلاقـهم ذهبــواً
إن لم يتدارك الفرد والأسرة والمجتمع المخاطر التي تحيط بالمنظومة الأخلاقية والحرص على القيم السامية والحفاظ عليها من التلوث الفكري، لن نحلم بتجاوز مرحلة الاستضعاف التي نحن فيها اليوم
نعم لقد أضحت منظومة الأخلاق لدينا في خطر، وإن لم نتداركها بسرعة كي تثبت، فذاك شر مستطر..
وهنا ينبغي على أصحاب رؤوس الأموال والمثقفين أن يتبنو مشروعاً ثقافياً، القائمون نخبة من الحوزات العلمية والأكاديميين، يخاطبوا المجتمع سيما الشباب بلغة العصر، لينقذوا الأمة مما هي عليه الآنم من تدني في الأخلاق
رؤوس الأموال يجب أن توظف في منافذ أكثر نفعاً من مسئلة بناء مسجد، بل تنفق لتزويج العزاب ليتعففوا بدلاً من الأنزلاق في الرذائل، وبناء دوراً سكنية للأسر المتعففة لكي لا يكونوا فريسة ان يأتي أصحاب الاجندات الخارجية ميستغلين حالة العوز، كذلك المنبر  تقع عليه مسؤولية في نشر الوعي لعبور المرحلة بأقل الخسائر، في سبيل الحفاظ على الفرد والمجتمع من الضياع.