القسم الثالث
لقد كشفت لنا الأسباب الموجبة للتشريعات الخاصة بتأسيس الجمعيات والإتحادات والنقابات والنوادي ، علاقة نشاطاتها بالتوجهات السياسية لأنظمة الحكم تأريخيا ، وإن لم تكن عناوين التشكيلات المهنية غطاء قانونيا لممارسة تلك النشاطات والتوجهات بشكل مباشر ، ولكنها يسرت عقد الإجتماعات وقيام التظاهرات في ظل تشريعاتها ، التي لابد من سبر غورها للتعرف على كيفية تعامل السلطات الحاكمة مع تلك الحالتين ، في أزمنة إعتاد العراقيون على وصفها بالعهود البائدة أو الغابرة أو المقبورة ، على الرغم من أن أحوالهم اللاحقة والتالية لها ، لم تكن بأحسن أو بأفضل منها بأية درجة من التفضيل والتميز في تفاصيلها ، ولطالما رأيناهم وسمعناهم على أطلالها يتباكون حسرة وندما . وبما يدعونا إلى الإشارة مثلا إلى قانون الإجتماعات العامة والمظاهرات رقم (115) في 2/7/1959 ، الذي نصت الأسباب الموجبة لتشريعه على إنه ( بالنظر لقيام العهد الجمهوري الزاهر وإطلاق الحريات الديمقراطية ، وتأسيس النقابات والمنظمات الأخرى ، وصدور التشريعات بذلك ، بات من الضروري وضع تشريع جديد للإجتماعات والمظاهرات ، يتلائم مع الأهداف والأسس التي جاءت بها تلك التشريعات الديمقراطية ، لهذا وضعت اللائحة المرفقة التي كانت نتيجة دراسة مستفيضة ، لما يماثلها من تشريعات في البلاد الأخرى ، مع الأخذ بنظر الإعتبار تلك الأهداف والحريات والأسس التي قامت عليها الثورة المباركة ) . وفي العام 1964 قامت السلطة الحاكمة ، ولغرض تنظيم شؤون الإتحاد الإشتراكي العربي ، وقيامه بأعماله على الوجه الأكمل ، وإعتباره من الجمعيات ذات النفع العام ، بتشريع قانون الإتحاد الإشتراكي العربي رقم (171) في20/9/1964- المعدل ، الذي جاء فيه أن ( الإتحاد منظمة شعبية سياسية تضم جميع قوى الشعب العاملة ، وتعمل من أجل خدمة الجماهير وإسعادها ، وتحقيق أهداف الأمة العربية ، تصدر اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد تعليمات خاصة لإدارة تشكيلات الإتحاد ومنظماته وماليته وشروط إكتساب العضوية وفقدانها ، ونسبة التمثيل فيه وكل ما يتعلق به ، وعند تعذر إجتماع اللجنة التنفيذية العليا ، يتولى مجلس الوزراء صلاحيات الأمين العام واللجنة التنفيذية العليا المنصوص عليها في هذا القانون ، وله أن يخول هذه الصلاحيات إلى لجنة وزارية ، وفي حالة حل الإتحاد تنتقل جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة إلى خزينة الدولة ) .
ونظرا لتغيير نظام الحكم في 17/7/1968 ، فقد ألغي القانون المذكور أعلاه وتعديله والانظمة الصادرة بموجبهما ، بموجب القانون رقم (85) في 15/8/1968 ، التي نصت الأسباب الموجبة لتشريعه على أنه ( إنطلاقا من الإيمان بحرية الجماهير وإحترام إرادتها ، وحفاظا على تراث شعبنا النضالي ، ووفاء لتضحياته الخيرة التي جاءت عبر نضالات منظماته الشعبية ، وحيث أن الإتحاد الإشتراكي لا يعبر عن نضال الشعب ، ولا يتفق وواقعه وأمجاده ، فقد إرتؤى إلغاء قانون الإتحاد الإشتراكي العربي وحله من الناحية القانونية والواقعية ، وإنتقال أمواله وعقاراته إلى خزينة الدولة ) . وهكذا نرى عندما تتبنى السلطة الحاكمة أو أحزاب النفوذ فيها ، تأسيس أو إعادة تشكيل أو دعم أي منظومة عمل سياسي بوجه وتصنيف مهني أو قطاعي ، وإختيار إدارتها بالإنتخاب أو بالتعيين ، فإنها لا تتأخر في تشريع سنده القانوني ذرا للرماد في العيون . ومنها قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2010 سابق الذكر في القسم الثاني من مقالتنا هذه .
وقد يكون القول ( بأن لم ولن يصيب العراق والعراقيين غير الشر من حكم عناصر الأحزاب السياسة له ) ، غير صالح لخاتمة بحث الموضوع ولا لمقدمته أو التمهيد له ، لأن حقيقة الإستنتاج من خلاصات التجربة الحياتية العامة والفعلية ، ونهاياتها المأساوية المبنية على ديمومة العمل على وفق قاعدة ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ، وليس على أساس قاعدة ( أن تكمل أخراها ما أنجزت أولاها ) ، كانت أساس الفشل والفساد في إدارة السلطات قبل الدولة ، والأغرب من ذلك أن ينكر أو يتنكر سياسي الصدفة وأعضاء الأحزاب الحاكمة بعد الإحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 ، ما شرعه السياسيون وأعضاء الأحزاب الحاكمة بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ، ولعل ذلك مما يسعى إليه بدوافع التسقيط السياسي القائم على تغطية النقص في الكفاية التنفيذية والكفاءة التشريعية معا ؟!، وقد لا يعرف الطارئون على السياسة والحكم ، أن ذلك من مواهب الغباء المهني ، حين تكون المطالبة بتشريع القانون وليس بتعديله ، مثل قانون من أين لك هذا أو ما يسمى بقانون الكسب المشروع ، الذي تناولنا بحثه في ست مقالات منذ 18-23/7/2018 على صفحات هذه الصحيفة الغراء ، أو المطالبة بإصدار قانون الأحزاب ، والقانون صادر بالرقم (36) لسنة 2015 ؟!. وغيرها الكثير مما لا شأن للعقل السياسي أو الحزبي بها مهنيا في إدارة السلطات أو الدولة .