المنطقة العربية بين النفوذ العثماني الجديد والصفوي المتجدد

المنطقة العربية بين النفوذ العثماني الجديد والصفوي المتجدد

لطالما كان الشرق الأوسط منطقة ذات تعقيد وتقلب جيوسياسي، لموقعه المتميز ووفرة مصادره الطبيعية ، اضافة لاهميته التاريخية والدينية حيث تتنافس القوى المختلفة على النفوذ والسيطرة .
ومنذ قرون امتد الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية لسنوات طوال لبسط نفوذهما وسيطرتهما على المواقع الحيوية في المنطقة العربية ، وقد اتخذ بعدا دينيا  ومذهبيا لتبرير صراعهما السياسي الاستعماري .

وفي السنوات الأخيرة، برز هذا التنافس مجددا بين إيران وتركيا  كجهات فاعلة بارزة، يتبع كل منهما أجندات توسعية طموحة في احياء امجادهما التاريخية العثمانية من جهة والصفوية من جهة أخرى . وكان لذلك آثار كبيرة على الاستقرار والديناميكيات المستقبلية في المنطقة . 

وقد احدث الربيع العربي انقلاباً في موازين القوى ، حيث لم يقتصر على مجرد الإطاحة ببعض الانظمة العربية ، الا انه اخذ ابعادا ايدولوجية بمحتوى اسلاموي .

ومن “الخمينية” إلى “الأردوغانية”
ظهرت تطلعات كبيرة للسيطرة على المنطقة العربية ، تتخذ من الدين واجهة لها لكسب التعاطف والتأييد .

وكانت الرؤية الإيرانية للنفوذ والسيطرة من خلال أيديولوجيتها الدينية الداعية الى تصدير الثورة الاسلامية بشكلها القومي الفارسي . وقد انشأت ودعمت الجماعات الوكيلة لإبراز قوتها وتعزيز مصالحها وبسط نفوذها تحت قيادة الحرس الثوري مستغلة العاطفة الدينية للشعوب العربية .
فقامت ببناء شبكة من الميليشيات والجماعات الولائية في المنطقة، بما في ذلك حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، ومختلف الميليشيات الموالية للولي الفقيه في العراق وسوريا . وتعزز هذه الجماعات نفوذها الذي امتد من العراق الى البحر المتوسط .
وتعمل الاذرع الإيرانية كرادع ضد الخصوم المحليين والإقليميين والعالميين ايضا .
وتتلخص أولوية إيران في تحقيق الهيمنة الإقليمية، وبطبيعة الحال، التهرب من العقوبات التي يفرضها الغرب والتي تقوض الاقتصاد الإيراني .

فخلال العقود الأربعة الماضية، أنفقت طهران مليارات الدولارات على بناء شبكة من الوكلاء المتشددين في مختلف أنحاء المنطقة . 
وتستخدم إيران الروايات التاريخية والمقدسات الدينية، لجذب فئات من السكان لتنفيذ مآربها وطموحاتها في المنطقة. 
كما استغلت التعاطف مع القضية الفلسطينية لترويج مشاريعها التوسعية .
وقد لعب برنامج إيران النووي، سواء كان سلمياً أو مسلحاً، دورا مهما في سياستها التوسعية وابتزاز الغرب وعزز نفوذها في السياسة الإقليمية والعالمية.
واصبحت إمكانيات القدرة على امتلاك الأسلحة النووية مصدر قلق وتهديد للدول العربية .

إن تورط إيران في الحرب الأهلية السورية، ودعمها لحزب الله في لبنان، ودعمها للحوثيين في اليمن قد ساهم  في زيادة الشعور بالتوتر وعدم الاستقرار الإقليميين . ومن خلال هذه العلاقات بالوكالة، تمكنت إيران من تحدي هياكل السلطة التقليدية في الشرق الأوسط، مما شكل تهديدًا كبيرًا للدول العربية .

وبالتزامن مع أنشطة إيران التوسعية، كانت تركيا تعمل بشكل متزايد لبسط نفوذها، مدفوعة بالأجندة التوسعية القومية والإسلامية لحكومة الرئيس أردوغان. حيث انخرطت في الصراعات الإقليمية، مثل الحرب الأهلية في سوريا وليبيا والسودان بعد ماسمي بالربيع العربي ، مما اكد المخاوف بشأن طموحاتها في أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة .
وقد ساهمت التدخلات العسكرية التركية، ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين، وجهودها لإبراز قوتها في شرق البحر المتوسط في الشعور المتزايد بعدم الارتياح بين جيرانها الإقليميين. وقد أدت التوترات بين تركيا ودول مثل اليونان وقبرص ومصر حول الحدود البحرية وموارد الطاقة إلى تفاقم ديناميكيات القوة الإقليمية .

وبالإضافة إلى ماتقدم نجد صراعها مع الكرد ، الذي يعد من العوامل المهمة لتدخلاتها في المنطقة، حيث يوجه النظام التركي أصابع الإتهام إلى كل من العراق وسوريا باحتضان حزب العمال الكردستاني . 
وقد عززت نفوذها من خلال القواعد العسكرية في بعض الدول العربية مثل قطر والصومال والتواجد العسكري شبه الدائم في العراق وسوريا . 
وكان لتعثر جهودها بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي سببا آخر للتركيز على المنطقة العربية .

وعلى العكس من تركيا ، تمر ايران الآن بواحدة من أضعف فتراتها، بعد انهيار حزب الله في لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا. فاصبحت
‬ في موقف دفاعي بعد انكسار طموحاتها التوسعية ، نتيجة الضربات المتلاحقة
فضلاً عن تنصلها عن مايُعرف بـ “محور المقاومة والممانعة”، الذي تقوده في المنطقة العربية.
ورغم ذلك فهي مازالت تطمح في اعادة تموضعها ، وهي تنشط الان لتحقيق اختراق لتعيد ماخسرته مؤخرا .
وهي مازالت تتنافس على الزعامة الإقليمية أو حتى على الهيمنة، وبما أنها رأت ان محصلة لعبتها سالبة ، فهي تحاول إضعاف منافسيها في المنطقة .

أن التدخلات التركية الإيرانية، يستدعيها ويغذيها الفراغ العربي نتيجة الخيارات المحدودة مقارنة بنفود هاتين الدولتين .
علاوة على ذلك، فإن مشاركة القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، في شؤون المنطقة تزيد من تعقيد المشهد السياسي .

لقد عانت الدول العربية ضغوطا كبيرة نتيجة التدخلات الخارجية، خصوصاً في ظل تعثر عملية التسوية السياسية للصراع العربي ــ الإسرائيلي .
ولكن هناك فرصة لدور عربي محوري في ظل متغيرات محلية وإقليمية ودولية مشجعة .
من المهم ان تلعب الدول العربية الفاعلة الان دورًا مركزيًا في استقرار الشرق الأوسط، وبشكل أساسي من خلال الاستفادة من مواقعها الاستراتيجية وقوتها العسكرية ونفوذها الدبلوماسي .
 
إن مستقبل المنطقة العربية يمر بمنعطف حرج، حيث تستمر المشاريع التوسعية الإيرانية والتركية في تشكيل الديناميكيات الإقليمية. إن ميزان القوى، واستقرار الدول القومية، والأمن العام للمنطقة كلها على المحك. وبينما يتنقل صانعو السياسات والجهات الفاعلة العربية في هذا المشهد المعقد، يجب عليهم إعطاء الأولوية لحل النزاعات والمشاركة الدبلوماسية وتعزيز التعاون العربي لمعالجة التوترات الأساسية وتعزيز السلام والازدهار الدائمين في المنطقة .