مهما قيل عن شخصية الرئيس الأمريكي الجديد، وبرغم كل المآخذ التي يمكن أن تُسجل على النظام الانتخابي الأمريكي الذي أسقط هيلاري كلنتون وأنجح دونالد ترامب، فهو قد أصبح رئيسا لأقوى دولة في العالم، وامتلك مفاتيح السياسة والمال والسلاح، لا في أمريكا وحدها، بل في الكرة الأرضية كلها، ولن تتمكن قوة، لا في الأرض ولا في السماء، أن تُخرجه من البيت الأبيض وتعيد الزمن إلى وراء.
وقبل الدخول في موضوع هذه المقالة الأمريكية لابد من رسم علامة استفهام كبرى حول تورط حكومات وجماعات وأحزاب وفضائيات عربية في ترويج ما تنشره السي إن إن وصحفٌ أمريكية عن ترامب، وهي تخوض معه معارك تصفية حسابات داخلية لا ناقة لنا فيه ولا جمل، ناهيك عن أن سلوكا عربيا من هذا النوع لا يتفق والحنكة السياسية التي تفترض النظر إلى الغد البعيد، والتعامل مع الأمر الواقع، وعدم اكتساب عداوة، أو تعميق عداوة مع رئيس جديد لدولة كبرى لا فكاك لنا من التعامل معها في أكثر من وجه وأكثر من سياق.
شيء آخر. سواء كان ترامب مؤمنا حقا بكل ما قاله، أو ببعضه، أو أنه كان يتاجر بالشعارات لكسب قوى شعبوية تناصره ضد معارضيه، أو تؤهله لفترة رئاسية ثانية، فإن خطابه الأخير ليس سوى ترجمة واقعية لمطالب حقيقية وأحلام مشروعة لملايين الأمريكيين الذين أساءت النُخب الحاكمة في وشنطن التصرف بأموالهم، وأفقرت الكثيرين منهم. ولا يحس بآلامهم أيٌ من عباد الله الآخرين. وبالتالي فإن ترامب، بما وعدهم به، إنما يحاول استثمار معاناتهم، أو إنصافهم، وهو، بالتالي، يفعل بذلك ما فعله كثيرون، قبله وبعده، من قادة الدول الأخرى، وما يفعلون. ولو أمعنا التمحيص في النقاط المهمة التي أوردها في خطابه لوجدنا أنهلم يخطيء في تشخيص ما وصلت إليه أمريكا، دون زيادة ولا نقصان:
- “إن الولايات المتحدة أنفقت المليارات على حماية دول العالم، وأهملت أوضاع مواطنيها في الداخل، ولكن الوضع الآن سيتغير، وستكون الأولوية للداخل الأمريكي، أمريكا أولا”.
- “من الآن فصاعدا سنشتري كل شيء أمريكي”.
- “سنعيد اكتشاف ولائنا لبعضنا”.
- أوباما، (رغم أنه لم يصرح باسمه) أوصل الولايات المتحدة إلى أسوأ حالاتها، في الداخل والخارج، معا.
- “نعاني من قلة الوظائف، ومن توقف عدد من المصانع عن العمل، ومن جرائم المخدرات، وكل هذا سوف يتوقف”.
- وعن السياسيين المتواجدين حوله على منصة التنصيب قال: “إنهم يتحدثون ولا يعملون”، و” لن نقبل مجددا بسياسيين يتحدثون ولا يفعلون، ويشتكون باستمرار ولا يحلون أي شيء، إن وقت (الكلام الفارغ) قد انتهى، وجاءت ساعة العمل”.
- “لوقتٍ طويل كانت هناك مجموعة صغيرة تحصد الفائدة وتترك الناس للضياع”.
- “سنقضي على العصابات، وعلى التجارة غير المشروعة“.
والذي يعيش في أمريكا، مثلنا، يدرك أن ما هو قائم في واشنطن، من عشرات السنين، هو نظام محاصصة في أسوأ حالاته، قبلية وحزبية ومناطقية، سياسية واقتصادية وثقافية، ولكنه مدهون من الخارج بأصباغ الحرية والديمقراطية. فقادتُه المزمنون لا ياذكرون مواطنيهم إلا في أيام الانتخابات، ويُخرجونهم من عقولهم وقلوبهم وجيوبهم بعد مواسم الانتخاب، ثم ينشغل كلٌ منهم بمصالحه، ومنافع الدائرة الضيقة المحيطة به وبأسرته، وشركات إخوته وأصهاره ومؤسساتهم.
وعليه فإن من يعيش في أمريكا مثلنا يفهم سر الغضب المدمر الذي اندلع يوم تنصيب ترامب، وسر القائمين به، والمحرضين عليه.
فلأول مرة، من عشرات السنين، يخرج واحد مغامر، مقامر، من خارج نظام المحاصصة المتين العصي على الاختراق، فينتزع القيادة من أحزاب (المنطقة الخضراء) الأمريكية، بالرغم من كل ما حاكه ضده، من مؤامرات ودسائس وتلفيقات، دهاقنة ُالحَوْل والطَوْل في واشنطن لوقف اندفاعه، ومنع فوزه، بأية وسيلة.
فهم يعلمون بأن دخوله البيت الأبيض لابد أن يُحدث شروخا خطيرة في جدران حصونهم، وأن يُبطل مفعول سحرهم، ويفسد عليهم تجارتهم التي ظلوا يتوارثونها من عشرات السنين.
والذي حدث في واشنطن يوم العشرين من يناير من حرق ودهم وتكسير وتهديم أمر عادي ومتوقع وليس فيه جديد. فلكل واحد من جهابذة المتحاصصين المتقاسمين للسلطة والمال والنفوذ في واشنطن قبائل ومليشيات وخلايا طفيلية عديدة نائمة تَخرج وقت الحاجة. وقد أذنوا لها بأن تخرج يومَ التنصيب، لا لإسقاط ترامب، فهذا ما لا يستيطع فعله أحد، بل لإرهابه، أو لحمله، على الأقل، على خفض حرارة عداوته لهم، وتعاليه عليهم، وإصراره على تحريض المواطن الأمريكي (الكادح) و(المحروم) و(المخدوع) و(المُستغَل) على بُغضهم، واحتقارهم، ليس في أربع سنوات حكمه وحدها بل لأجيال أخرى في عشرات قادمة من السنين.
وهنا نسأل، لو كان ترامب عراقيا، واقتحم أسوار المنطقة الخضراء، وسحب البساط من تحت أقدام عمار الحكيم ونوري المالكي وفؤاد معصوم وحيدر العبادي وهادي العامري وأياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلق، مثلا، أكانوا سيكتفون بحرق سيارة، وتكسير زجاج مطعم، وقلع عمود كهرباء في بغداد، فقط، كما فعلت الجماعات (الملثمة) في وشنطن، أم كانوا سيغتالونه قبل وصوله إلى منصة حلف اليمين، أو يعتقلونه بتهمة (البعثية) و(الوهابية) و(الداعشية) والعمالة والامبريالية والصهيونية. ومن المؤكد أن المتحاصصين، عندنا، سوف ينسون خلافاتهم، شيعة وسنة، عربا وكوردا، ويتوحدون عليه، ويهدمون على رأسه بيته وبيوت آبائه الأولين والآخرين، فأبطال المحاصصة العراقية لا يمزحون أبدا مع ترامب عراقي محتمل، ولا يرحمون.