ولدت المندائية في اللحظة التاريخية لولادة التوحيد الأول وبالرغم من محدودية جغرافيتها والأتباع إلا أنها مثلت الأزل المتنور في أول خطواته على الأرض عندما تؤكد موروثاتهم أنهم عاصروا الرؤى الإبراهيمية الأولى قبل أن الديانات الأولى في الظهور في طور سيناء وأورشليم ومكة .
تلك الولادة كانت في قيمتها تمثل لحظة تاريخية لحقيقة المشاعر الروحية التي سكنت الذات بأيمان التواضع وخيارات العزلة المكتفية بما تملك من مساحة ومريدين ، وهي ديانة عاشت التحولات نتاج العوامل التاريخية ولكنها في النهاية التزمت رؤيتها الوحدانية العلنية والرسمية مع انتماءها الى النبي يحيى ( يوحنا ) الذي عمد السيد المسيح ( ع ) في نهر الأردن.
لحظة التعميد بشكلها الإنجيلي والتاريخي ثمل فاصلة التحول الآخر للحياة المندائية ، إنها كمن ينتقل من شرفة النهر الى نافذة البحر يتسع المدى أمامها وتؤرخ اللحظات تجوال غنوصي وسري في الذات المتأملة للوحدانية بنمط من العزلة والاكتفاء والصوفية لتمر عليهم العصور والتواريخ والإمبراطوريات وهم على ذات الهاجس والبقاء والنمط الحياتي والطقوسي ، لم يتغير فيهم سوى أنهم ابقوا خيط التواصل الحضاري مع المتغيرات قائم على نظرية عدم الاقتراب والمساس بخصوصية هذا المتغير وعدم التأثر فيه أو التأثير فيه في سلوك هادئ وأخلاقي ومهادن مما اكسبهم ذلك التصرف احترام كل تلك الحضارات والأمم الحاكمة ليبقوا هكذا في ذات النسيج الاجتماعي والروحي والديني منذ أزمنة التعميد الأول وحتى اليوم.
في القرن العشرين ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة وتقدم وسائل الاتصالات والمتغيرات المدنية في انظمة الحكم والديمقراطيات والنمط العمراني الجديد ، أفرزت الضرورات التاريخية متغيرات وانماط جديدة على الكثير من الأقليات العرقية والدينية في العراق من اجل اثبات الهوية والوجود ونيل المكتسبات الاجتماعية والدينية والوطنية ، ولو أول مرة في تاريخ الطائفة تظهر بوادر الحضور الاجتماعي الرسمي في المحافل وامام السلطة الحاكمة عندما بدا من يمثل الطائفة واغلبهم من الشيوخ ورجال الدين بالتواصل الجدي والعلني مع المؤسسة الحكومية ورافق ذلك اندفاع أبناء الطائفة للالتحاق بالمدارس ومعاهد العلم والاندماج في المجتمع من خلال الوسائل الحضارية الجديدة مثل التعليم والوظائف وغيرها من المهن التي لم يكن يمارسونها من قبل عندما كانت اغلبها محصورة في الصياغة وصناعة الأدوات الزراعية والتنجيم .
فتحت تلك الأفاق الجديدة أمام المندائي مسارات جديدة غير التي تعودها في ذلك العزل الروحي والاجتماعي وممارسة الطقوس في إطار المساحة والمجتمع المحدد بصرامة والذي لايستطيع ان يبتعد عنه ابعد من ضفاف الشاطيء وبوابة المعبد ( المندي ) أو حانوته الصغير. وبدأت مشاعر الانتماء الى المتغيرات الحضارية التي أتت مع كتب الثقافة والمدرسة والاطلاع تؤثر في تلك الذات في قناعة ان الحياة الجديدة بعولمتها الآلية ومتغيراتها الصاخبة ينبغي أن تعاش في الفهم المتبادل والمشاركة الأوسع وكان الانتماء السياسي من بعض تلك الخطوات الجريئة لدى المندائي ، ولأنه يمتلك الذات المتسعة الرؤى في طبيعة تكوينها المسالم والغيبي كان الفكر الماركسي اليساري الأقرب لميوله وهواجسه الداخلية ، وأظن أن هذا يعود الى إن الديانة لم تكن تمتلك تابوها إزاء القراءات الأخرى وخاصة تلك التي ليس لها علاقة بالديانات أو تجعلها من ضمن مشروعها الفكري كهدف ، فوجودا في الماركسية فكرة عالمية ذات بعد اجتماعي واقتصادي واضح ولا يعارض تماما فكرة انتماءهم الديني ، بالرغم من أن لينين كان يعتبر ان الدين هو أفيون الشعوب .
اغلب المندائيون ذهبوا الى اليسار بفضل ذلك الوازع الخفي الذي سكن فيهم وألهمهم الرؤية في جعل مندائيتهم الأولى ترتبط باليسار الأول .
القلة ذهبوا مع الوعي القومي وهم ندرة ، ولكن المندائي الأول فضل أن يكون شيوعيا أولا وبسبب هذا لحق الكثير منهم ظلم التعسف والسجن.
إنها قصة طويلة تحتاج الى قراءة أكثر خصوصية ومن جوانب شتى .لكننا هناك نسجلها فقط على شكل خواطر ربما تعجب البعض وربما احدهم يرميها في سلة المهملات.
فألي ذلك المندائي الأول ابعث تحيات مشتركة من لحية السيد ماركس ـ وعمامة شيخهم الحالي.