22 نوفمبر، 2024 6:24 م
Search
Close this search box.

المنحوس – 2

مرت ساعة على وقوفه في المرآب الصغير، للنقل داخل المدينة ، لم يصادف أحدأ من المارة ، المحلات والمتاجر مقفلة ، الشوارع صامتة ، المدينة في سكون مطبق ، قطة تلعق كفها ، تمسح بها جسدها ، ثم تعود الى لعقها ومسح بطنها ، جرذ يمرق من جانبه وينحشر في فرجة الباب المتماوج لدكان بيع الفلافل ، إرتعب حين لامس الجرذ المسرع  قدمه ، كاد يسقط على الارضية اللزجة ، القذرة ، بكل أنواع الزيوت وبقايا الطعام الممتزجة بالتراب ، إبتعد مسرعاً ، ثم عبر الرصيف ، وقف هناك تحت المصباح الذاوي ، إنثال ضوءه فوق سترته البنية ، فأستحال لونها الى ذهبي متمواج ..
تَعَجَبَّ كيف أن المكان الذي يعج عادةً بالعابرين والباعة والمتسولين ، يكون بهذا الصمت الموحش؟؟  !! شتان بين هذا السكون ، والضجيج الذي سيحل بعد ساعة أو أقل !!
لكنه عاد وأستدرك أن ليل الشتاء طويل ، وأنه إستبق الموعد  بساعتين ، لم ينم  الليلة الماضية ، صوتها يرّن في سمعه حينما هاتفته ، خيالها أرقه ، قضَّ مضجعه ، رغم أنه لم يرها أبدا ، لكنه الخيال الذي رسمه صوتها الناعم ، الغنوج ..
 دَسَّ يده في جيب قميصه ، تحسس قصاصة الورق ، إستلها ببطء ، فضّها ، ثم راح يُنقّلُ طرفه على رقم الهاتف تحت ضوء المصباح  ، مَرَرَّ أطراف أصابعه فوق حروف إسمها ، بدا له الأسم أجمل من اي إسم ، أعادها مرتبكاً الى جيبه ، بعد أن سمع صوتاً قادماً من إحدى الدكاكين المقفلة ، أقترب من مصدر الصوت ، كان خافتا ، متقطعاً ، كأنه قادم من البعيد ، لم يفهم شيئاً مما يسمع ، همهمات لايمكن أن يتبين كنهها ، إلتصق بالباب المعدنية المتماوجة ، التي إستحال لونها الى اصفر غامق بفعل الغبار والزيت وكل ما إلتصق عليها من قاذورات ، إصطبغت سترته وياقة قميصه وصوان أذنه ببقعة كبيرة من شحم اسود ، فالفضول الممتزج بشيءٍ من الخوف لمعرفة مصدر الصوت داخل الدكان ، حال دون تنبهه الى الوضع الذي هو عليه..
قف ، قف ققققققف ، إياك أن تتحرك من مكانك ..
تجمد الدم في عروقه ، شعر ببرودة ورعشة في رأسه ، قشعريرة تنزل الى بطنه ، سقط على الارض اللزجة من هول المفآجئة ، فالمكان خالٍ ، إلا من بعض الحيوانات السائبة ، تمنى في لحظة خاطفة أن يكون مصدر الصوت من شبح أو جني ، على ان يكون من شرطي أو رجل أمن ، يظن أنه لص محلات !!
إنتصب واقفا بصعوبة ،  إستدار رافعاً يديه بحركة آلية ، لم ير سوى خياله المرتعش ، حدق بخوف الى كل الجهات ، سمع قهقهات صادرة من منعطف الطريق ، سكارى يتصايحون ويضحكون  ، قف قف هه هه هه قف ، هه هه.. تبدد الصوت الذي ارعبة ، ثم تلاشى في البعيد..
إبتعد عن الدكان الذي تهمهم الاصوات فيه ، حاول أن يجمع شتات فكره ، ليتمكن من مواصلة الانتظار اللعين ، الليل طال ، عتمته لاتنجلي ، والفجر توانى في قدومه ، مازالت مصابيح الشوارع تنوس بأضوائها الكئيبة ، تمنى أن يمر حارس ، أو اي عابر يكسرهذا الصمت والوحشة المشوبة بالمجهول ..
عاد بخطى وئيدة الى المحل الذي توشوش الاصوات فيه ، ألقى نظرة سريعة على ما حوله ، وحينما تأكد أن أحداً لن يراه ، إلتصق بالباب مرة أخرى ليعرف مايجري هناك ..
 
الدقائق تمر بطيئة ، تسرب البرد الى جسده ، نفخ يديه  ثم دَسهما في جيوب سرواله .. الاصوات تعلو وتهبط ، ليس بأمكانه تمميزها ، صوت رجل ؟؟ !!  صوت إمرأة؟؟  صوت رجل وإمرأة ؟؟..
إستدار الى الجهة الأخرى ، لصق أذنه التي لم يسبغها الشحم الاسود والقاذورات في المرة الأولى .. تأوهات ، همهمات ، خفتت وكأنها استشعرت أن احد  يتنصت عليها..
إهتدى الى ثقبٍ صغير في الباب المعدنية المتماوجة ، حاول جاهداً أن يرى ولو بصيصياً من خلاله ، لكن أنفه الكبير أعاق الالتصاق التام بالواجهة ، لذا فقد أدار خده بزاوية تمنحه الحد الأقصى من التحديق خلال الثقب الصغير..
لم يتبين شيئاً ، الظلام دامس ، حندس حقيقي تخللته خيوط ضوء واهية من فسحات وثقوب لاتكاد ترى في الباب ، ألقت خيوط نور خافت على بعض الحاجيات في المحل المغلق .. اختفى الصوت لوهلة ، ثم عادت الوشوشة ، تمنى لو أن الثقب أوسع قليلا ، أو أن الصوت يرتفع  ، فراح يغير موضعه ، صعوداً ونزولاً ، يُبدل عينه اليسرى باليمنى دون طائل ، الرؤية مازالت ضبابية ، والأصوات بعيدة غير مفهومة..
أبواق  السيارات صارت تسمع هنا وهناك ، الفجر يسكب ضوءه على واجهات المحلات المغلقة بفتور ، أختفى الكثير من الحيوانات التي كانت تجوب  الشوارع الخالية ، العصافيرتختصم على الشجرة الوحيدة في المرآب ، إبتعد عن المحل وفي نفسه فضول كاد أن ينسيه  موعده ، ظل يراقب من الرصيف الآخر ماسوف يكشفه الصباح من سر الاصوات الغريبة ..
مَرَّ أول شخص من جانبه ، نظر إليه بتعجب ، ظل يتلفت  وهوعلى بعد مائة خطوة منه ، هزَّ يده بحركة إستغراب ثم إختفى ..
ثلاثة عمال يحملون أدوات البناء حدقوا اليه بذات الاستغراب الذي رمقه به الرجل قبل لحظات ، ضحكوا ، هَزوا أيديهم ، إلتفتوا قبل إختفائهم في منعطف الطريق ..
إنبجست مجموعة طالبات من ناصية الطريق ، تقدمت نحو المرآب ، وقفن على مقربة منه ، وضعن المناديل على وجوههن وأنخرطن في ضحكٍ دامع .. عمال ، طلاب ، موظفون ، عابرون ، جنود ، متسولون ، ينظرون إليه ، يضحكون ، يقهقهون ، يشيرون باصابعهم نحوه ، عبس رجل كبير باشفاق ، ثم مالبث هو الآخر يضحك مع الضاحكين ..
صبي يبيع السكائر ، يمر من  جانبه ، ينظر اليه ويضحك ، سائق الباص ينادي على الركاب بالصعود ضاحكاً ، الركاب يصعدون ضاحكين ، المتسولون يضحكون ، تدمع أعينهم ، يمسحونها بخرق قذرة ..
شابة تضع على صدرها وردة بيضاء ، وتحمل كتباً في يدها ، تقدمت نحوه ،  قلبه يخفق ، تبسم لها ، إنها اشارة التعارف المتفق عليها ، هي: وردة بيضاء وكتب في اليد ، هو :سترة بنية ، سروال بني فاتح ، إقترب منها ، نظرت الى وجهه وثيابه بأستغراب ، إبتعدت عنه مستائة ، رمت الوردة البيضاء ، داستها بقدمها ، ومضت..
وصل صاحب المحل الذي همهمت الاصوات فيه طوال الليل ، عالج القفل بالمفتاح ، رفع الباب المعدنية المتموجة ، يافتاح يارزاق ..
الفضول ينهش قلبه ، عبر الرصيف لاهثاً ، إقترب من المحل ، دَسَّ رأسه هناك ،  إلتفت صاحب المحل اليه متعجباً ، قهقه ضاحكا ، وهو يطفأ المذياع الذي نسيه دائراً الليلة الماضية. 

أحدث المقالات