23 ديسمبر، 2024 10:16 ص

قصة قصيرة
إلتقت عيناه بعينيها من شباك الطابق العلوي في حافلة نقل الركاب التي كان يستقلها ، جلست تحت مظلة موقف الباص المشترك الذي تمر فيه عدة حافلات تقل الركاب الى مناطق مختلفة ، راقه شكلها وهدوئها ، شيئ ما يميزها عن جموع الناس المحتشدة في ذاك المكان ، كـأنها جورية بيضاء ، بل كأنها نجمة الصبح .
تبسم لها ، فأرتسم على شفاهها ظل إبتسام ، رفع إبهامه الى اذنه ووضع الخنصر على فمه إشارة للتهاتف .. أومأت اليه إيماءة شفيفة مفادها .. نعم.
لم يصدق عينيه ، فرح كبير تغلغل الى قلبه ، هب من مقعده للنزول وملاقاة مليكته التي شحت عليه حتى احلامه برؤيتها ، سمع صوتاً أثناء قيامه مثل وتر الكمان وهو في نشازه تتششغغغغغغغغغ ، أحس بشيء يجذبه ، يا إلهي؟؟ صاح وقد علق سرواله في النتوء المعدني الحاد الذي إختط شقا في سرواله من الجيب الخلفي الى بداية الفخذ !! إرتبك ، ارتمى مرة اخرى على ذلك المقعد اللعين ، عدل عن النزول ، كيف يمكن أن يلاقي من سلبت عقلة بحسنها وهو بهذا الحال البائس؟؟
إستل قلماُ من جيبه وعبثاً راح يفتش عن ورقة أو علبة كبريت أو أي شيء يمكنه الكتابة عليه ، خشي أن تسير الحافلة وتذوب فتاة احلامه في الزحام وإلى الابد ، لذا مزق قصاصة صغيرة من أوراق المعاملة التي كان يحملها معه ، وبيد مرتعشة كتب اسمه ورقم هاتفه ، أطل عليها ، ما زالت تنظر اليه ، رمى الورقة وفي عينيه رجاء محتضر ، كأنه إعتصر روحه وأودعها طيات تلك الوريقة الصغيرة…
سارت الحافلة وهو يحلم باللقاء..
تابعت الورقة الصغيرة وهي تتأرجح في الهواء مثل فراشة أعياها الطيران وهدها التعب ، سقطت على الارض ، دنت منها ، وقع جزء من تلك الوريقة على بصاق رجل كان يدخن في المكان ويسعل ، شعرت بالقرف ، ركبت الحافلة ومضت .
الهاتف يرن ، هرع اليه ، ألووووووووووو ، نعم ، الوووووووو
كانت اخته على الخط .. ما بك يا احسان ؟؟
لا شيء ، انتظر مكالمة بخصوص المعاملة ، ولكي يتفادى كلامها المكرور عن زواجه و قطار العمر الذي سيفوته ، رغم أن اخر قطار إستقله كان قبل أعوام طويلة يوم حمل كتاب تسريحه من الجيش بعد خدمة مضنية في حرب لعينة .. قال لها أرجوك لدي ضيوف وأنتظر مكالمة مهمة.
الهاتف يرن مرة أخرى..
فز اليه ، عثر بطاولة استقرت امامه ، إنقلب ما فوقها على السجاد ، رفع سماعة الهاتف : الووووو نعم ، الوووو على أن احداً لم يرد ، لم يسمع سوى صدى صوته المرتعش ، لا حرارة ولا خط ، قطعت الاسلاك اثناء سقوطه .. عالج الامر بعد وقت ليس بالقصير ، أشعل سيكارته الخامسة بعقب الرابعة ..
ترررررررن .. الووووو نعم..
صوت ناعم نغوم الوووو أنا….
هل انتِ ؟؟ ، موقف الباص ؟؟ .. نعم.
حددا موعد اللقاء على الساعة العاشرة يوم الثلاثاء..
وصل الى مكان الموعد في العاشرة إلا ربع..
الوقت ثقيل ، الدقائق تتباطأ ، كأن الزمن توقف أو شاب ،عدل ثيابه اكثر من مرة ، تلفت حوله ، ينظرالى الساعة بين لحظة وأخرى دون أن يرى عقاربها ، ظنون وأفكار كثيرة دارت في رأسه ، هل ستأتي أم لا؟؟ ربما ارادت ان تتلاعب بي وتتسلى بهياج عواطفي بعد أن رأت لهفتي وانا أكاد اقفز من الحافلة اليها؟؟
لكن صوتها لا ينم على انها من هذا النوع.. وبينما هو منشغل بوساوسه تلك ، سمع وقع اقدام وخيال يتهادى خلف موقف الباص الذي كان ينتظر فيه ، تابع الساقين الممتلئين قبل أن تطل عليه صاحبتهما..
فاجأته بصوتها الدافيء.. صباح الخير..
رد التحية وعلامات التعجب ترتسم على كل ملامح وجهه..
لست هي!!؟؟ نعم انا لست هي ، هي لم ترفع قصاصة الورق من الارض ، أنا فعلت .. قالتها بنبرة واثقة غير مبالية بما ستؤول اليه ردة فعله..
بلع ريقة بصعوبة ، لم تكن هي التي حلم بها وبنى لها قصورا من الوهم في الايام التي سبقت هذا الموعد ، هذه قصيرة وممتلئة ، ليست قبيحة ، لكنها ليست المرأة التي خفق لها قلبه وجعلته يهم في دفع العزوبية وقطار العمر الذي سيفوته وتلك الترهات التي يرددها الفاشلون..
لم تسعفه كلماته في إنتقاء ما يليق من أدب الاعتذار ، كي لا يشعرها بالاحراج ، فلقد تكلفت عناء القدوم اليه ، وربما حلمت مثل أحلامه .. لكنني غير معني بكل هذا ، هي من وضعت نفسها ووضعتني بهذا الموقف ، هكذا حَدَثَ نفسه ..
ثم ما لبث أن إعتذر منها وأنصرف ..

الطابور طويل ، والزحام شديد في البناية الحكومية المتداعية ،الحر زاد من نزق المراجعين وشكواهم ، أوراق المعاملات أصبحت الوسيلة الوحيدة لتحريك الهواء الساخن ، الاصوات ترتفع والايدي تمتد بالاوراق ، الاكتاف تتدافع والاعناق تشرئب عندما يفتح الموظف المتململ كوة الشباك الصغيرة ليستلم أو يسلم معاملة إكتملت أو لم تكتمل مصدرا أوامره بلغة ٍ فظة ٍ وصوت قبيح ، ثم يعود ويغلق الشباك تاركاً الاصوات ترتفع بعضها بالتوسل وبعضها بالسباب والشتيمة ..
وصل الى الشباك بعد عناء طويل ، ناول الموظف المتململ المعاملة ، فراح هذا يقلب أوراقها ويقرأ سطورها بهمهمة مسموعة ، يتوقف عند بعض السطور، فتتوقف دقات قلبه معه، ثم يأخذ نفساً عميقاً عندما يتابع الموظف القراءة ، ينظر الى ملامحه ، يعبس معه عندما يعبس ويتبسم لتبسمه..
اها .. ممتاز .. جيد .. المعاملة مكتملة ، أحس بسعادة كبيرة وفرح لا يضاهيه فرح ، المعاملة اللعينة ، شهور طويلة من المراجعات وساعات من المذلة والانتظار..
وعندما تصفح الموظف المتململ الصفحة الاخيرة.. رفع وجهه اليه وتبسم أبتسامة صفراء ثم صرخ : ما هذا يا أخينا * بالله ؟؟؟
إرتعدت فرائصه ، واصفر لونه ، ركبتيه ترتعشان ، أحس أن الارض تتحرك تحته .. ماذا يا أأأأأستاذ؟؟
رفع الموظف المعاملة وأصبعه يشير الى مكان في الصفحة الاخيرة..
من الذي مزق توقيع المدير؟؟
ضرب جبهته بباطن كفه.. إنها القصاصة ، موقف الباص..
صرخ الموظف ، هل انت تسخر أم أن الحر أطار عقلك؟؟
خذ هذه الاوراق.. عليك ان تبدأ المعاملة من جديد..
إذهب الى العرضحاجي ** الذي في الباب

* الصحيح ياأخانا لكني تركتها كما هي لكي تبقى مثلما نتداولها في اللهجة العامية.
** العرضحاجي : هو الذي يكتب المعاملات الرسمية عند ابواب المحاكم والدوائر الرسمية.