من اكبر المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي حالة الادلجة القسرية التي تفرض عليها من قبل الدولة عبر وسيلتين …الأولى ثقافة السلطة وديماغوجية الخداع والسيطرة على الأفكار التي تمارسها الكثير من حكومات هذه الدول على شعوبها ، الهدف منها هو إخضاعها وجعلها تسلم بالواقع المزري والمرير الذي تعيشه على انه جزء من أقدارها التي رسمتها لها السماء … أما الوسيلة الثانية والتي لا تقل خطورة عن الأولى بل إنها أكثر شمولية واتساع منها إلا وهي المناهج الدراسية ، فمنذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي وقد تبنت الكثير من هذه الدول إتباع وسائل ومناهج دراسية في المدارس بكافة مراحلها ، تعمل على تثقيف التلاميذ وفق رؤى ونظرة الدولة لحقيقة الأمور وتبعا للقناعات السياسية والدينية لحكام تلك الدول ، وميولهم الطائفية ونظرتهم للتاريخ… وهذا بدوره ولد حالة من الضبابية وعدم وضوح الرؤية لأجيال عدة تربت وتتلمذت على هذه المناهج ، وأثرت في حراكهم وسلوكياتهم وتوجهاتهم الحياتية واثروا هم بدورهم في طبيعة أفكار أسرهم ومجتمعاتهم … وكان هذا من أهم أسباب نشوء الأمراض الاجتماعية ونشوء ثقافة اليقين الجمعي عند شعوب هذه البلدان ، بغض النظر عن حقيقة ومصداقية هذا اليقين …إضافة إلى حدوث حالة تغييب متعمدة من قبل السلطة لرموز وأحداث وأفكار ونظريات تصورت إنها تتقاطع معها أو تضر بمصالحها السلطوية … وقد حدث هذا الأمر بصورة كبيرة وواضحة في العراق في الفترة التي تلت انقلاب شباط الأسود عام 1963 وهيمنة الفكر القومي والبعثي على جميع مرافق الحياة هنا … وتجلى هذا الأمر بوضوح أكثر أبان حكم النظام البعثي بعد عام 1968 … حيث عمل هذا النظام على تشويه الحقائق وطمرها وتثقيف الأجيال حسب قناعاته الفكرية ، وطرح التاريخ والدين والتراث من وجهة نظر أحادية اقصائية تمثل وجهة نظر البعث حصرا …
ومن الأمثلة على ذلك ، إن الكثيرين ممن تربوا على ثقافة ومناهج السلطة يعتقدون ولوقت قريب إن الزعيم عبد الكريم قاسم كان دكتاتورا شعوبيا قاتلا ،بعكس حقيقته التاريخية والإنسانية كونه قائدا وطنيا نزيها محب لشعبه ووطنه ، وهذا الاعتقاد صورته لهم المناهج الدراسية التي تعمدت إخفاء هذه الحقيقة … وان الأمويين هم أناس صالحون كانوا يعملون على وحدة الإسلام ورفعته وكانت هذه المناهج تمجد مآثرهم وانجازاتهم العمرانية والبطولية فيما يسمى بالفتوحات الإسلامية ، بعكس حقيقتهم الدموية ، وكمية الظلم والاضطهاد الذي مارسوه على الشعوب الإسلامية أبان حكمهم الذي دام أكثر من ثمانية عقود ، والتي ذكرتها معظم كتب التاريخ … وقد شكل نظام البعث لجنة برئاسة محمد سعيد الصحاف في مطلع سبعينيات القرن الماضي لإعادة صياغة التراث فبدلت وشوهت واخفت هذه اللجنة الكثير من الحقائق وغيبت الكثير من الرموز الوطنية بل وتعدت إلى حقلي الفن والأدب فخلت المناهج الدراسية والمكتبات العامة من أسماء الكثير من أعمدة الأدب العراقي شعرا ومسرحا ورواية وقصة ، وغابت عن محطات الإذاعة والتلفزيون الرسمي للدولة أهم واكبر أسماء رواد الغناء والطرب العراقي ، والسبب هو اختلافهم مع السلطة ايدولوجيا ، وغاب عن الذاكرة الجمعية لأجيال عدة أسماء كتاب وأدباء وتشكيلين وفنانين عراقيين ساهموا في بناء الصرح الفكري والإبداعي على المستوى العالمي .. وهذا بدوره خلق حالة من القولبة الفكرية لمجتمعنا استمرت لعقود نتج عنها ثقافة الإقصاء والكره والتغييب وعبادة وتمجيد الشخوص .. وبعد سقوط النظام عام 2003 تم تصحيح الكثير من هذه المفاهيم عبر تغيير جزئي لهذه المناهج الدراسية إلا إنها لازالت بحاجة إلى إعادة صياغة وطرح أكثر جرأة ووضوح للكثير من الحقائق ، والعمل على تصحيح العملية التربوية بطريقة تؤدي إلى إشاعة ثقافة التسامح وقبول الأخر وتعريف الطلبة برموز العراق الوطنية والأدبية والفنية … وما قامت به جمهورية مصر العربية مؤخرا ، بإبدال مادة التربية الإسلامية في مدارسها بمادة التربية الأخلاقية والإنسانية يمكن اعتباره خطوة نحو الأمام نظرا لطبيعة الفكر الطائفي والاقصائي التي كانت تصور به هذه المناهج الدين الإسلامي الحنيف ، وما تحتويه من تشويه وتدليس للحقائق ، ولخلق حالة من التعايش والانسجام مع الأقلية القبطية المسيحية في هذا البلد … وبالرغم من التداعيات السلبية التي ستولدها في المنظور القريب ، إلا أنها على المدى البعيد ستعمل على خلق مجتمع مدني أنساني يبقى فيه الدين في حدود الحرية الشخصية ، وثقافة وانتماء للفرد ، لايحق له فرضها على الأخر الذي يختلف معه فكريا أو عقائديا …. وهذه غاية تدعوا إليها وتنشدها جميع الديانات السماوية والنظريات الإنسانية النبيلة .